قراءة علمیَّة فی کتاب
الشیخ حسنین الجمال[1]
بطاقة الکتاب:
- اسم الکتاب: (شورا در فتوا)[2]
- اسم المؤلِّف: حمید شهریاری
- بیانات النشر: ط2، قم المقدَّسة، بژوهشگاه علوم فرهنگ اسلامی معاونت بژوهشی دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم (مرکز العلوم والثقافة الإسلامیَّة؛ ومعاونیَّة البحوث فی مکتب الإعلام الإسلامیّ)، 1386ه.ش.
حمید شهریاری هو أستاذ للبحث الخارج فی الحوزة العلمیَّة، حائز على شهادة الدکتوراه فی الفلسفة المقارنة. ولد عام 1342 ه.ـش. فی مدینة طهران، أنهى دراسته الثانویة عام 1360ه.ش، وانخرط فی صفوف الحوزة العلمیَّة فی قم المقدَّسة، وأنهى دراسة السطوح فی غضون ستّ سنوات، ثمَّ التحق بدروس الخارج فی علْمَی الفقه والأصول عند بعض الأساتذة المبرّزین فی قم. وفی أثناء دراسته الخارج، نال شهادة الماجستیر فی الإلهیَّات والمعارف الإسلامیَّة من جامعة (تربیت مدرّس)، وکانت رسالته للماجستر تحت عنوان (شورا در فتوا). ومنذ العام 1375 تولَّى رئاسة مرکز نور للتحقیقات الکمبیوتریَّة فی العلوم الإسلامیَّة. ثم حاز على شهادة الدکتوراه فی الفلسفة المقارنة من جامعة قم. وألَّف کتابًا فی فلسفة الأخلاق الغربیَّة، فحاز سنة 1385 فی إیران على الجائزة السنویَّة لأفضل کتاب فلسفیّ. ثم تصدَّى لرئاسة مرکز تحقیق وتوسعه علوم انسانى (سازمان سمت). وهو یجید اللغتین العربیَّة والإنکلیزیَّة. وقد شرع فی تدریس بحوث الخارج فی علم الفقه فی حوزة قم سنة 1391، فدرَّس بحث "فقه التکنولوجیا الحدیثة"، وما زال إلى الآن یدرّس بحثًا آخر فی علم الفقه[3].
وقد حاز کتاب (شورا در فتوا) على جائزة أفضل بحث علمیّ سنة 1383هـ.ش. وهو حاصل بحث وتحقیق لمدة 3 سنوات (من سنة 1372 إلى سنة 1374). وقد بحث فیه عن إمکانیَّة تشکیل هیئة جماعیَّة للفتوى والاستفتاء تعتمد على الشورى والمشاورة[4]، بحیث تقلّ على أثرها نسبة الآراء المختلفة والمتعارضة.
فرتّب کتابه على مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة.
فذکر فی المقدّمة الفکرة الرئیسة التی یرید معالجتها فی هذا الکتاب، وهی: رأی الفقه الشیعیّ فیما یرتبط بشورى الإفتاء. وبیَّن مشکلتین واجهتاه أثناء تدوینه لهذا الکتاب، وهما:
1- عدم وجود بحث مستقلّ مطبوع فی هذا المجال
2- حاجة هذا البحث لقدرة علمیَّة وبحثیَّة کبیرة.
ثمَّ قسَّم فصوله على التالی:
- الفصل الأوَّل: دور الشورى والمشاورة فی صدور الفتوى
- الفصل الثانی: مناقشة أدلة الاجتهاد والتقلید ونسبتها إلى شورى الفتوى
- الفصل الثالث: اختلاف الفتاوى
ثمَّ ختم بخاتمة نستعرضها مع تفاصیل الفصول فیما یلی من هذه القراءة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّه لم یطرح ما ذکره فی هذا الکتاب حلًّا نهائیًّا للمسألة، بل ترک المجال مفتوحًا أمام سائر الباحثین لیشبعوه بحثًا وتدقیقًا.
الفصل الأوَّل: دور الشورى والمشاورة فی صدور الفتوى:
فی هذا الفصل بیَّن الکاتب معنیین للشورى، هما:
1- المعنى الأوَّل:عبَّر عنه الکاتب بلفظ الشورى، وهو أن یجتمع بعض الأشخاص ویبحثون فی مسألة، فیخرج عنهم نتیجة واحدة هی حاصل رأی الأکثریَّة أو المتخصِّصین بینهم. ویُعدّ مجلس النواب فی أغلب البلدان مصداقًا لهذا المعنى.
2- المعنى الثانی:وعبَّر عنه الکاتب بلفظ المشاورة، وهو أن یجتمع بعض الأشخاص ویتبادلون الآراء فی مسألة محدَّدة، فیصبح کلّ منهم مطلعًا على جوانب المسألة کلّها، بحیث یستطیع أن یُبدی رأیَه الخاصّ فی المسألة. وتُعدّ جلسة رئیس الجمهوریَّة مع مستشاریه مصداقًا لهذا المعنى.
وکلٌّ من هذین المعنیین قابل للتصویر فیما یرتبط بالفقهاء، فیمکن أن یکون لدینا شورى فقهاء، أو مشاورة بین الفقهاء. وأشار الکاتب إلى وجود عدَّة صور للشورى؛ لیقول بأنَّ ورود إشکال على إحدى هذه الصور، لا یعنی بطلان هذه النظریَّة من رأس.
ثمَّ بحث المعنى اللغویّ لکلٍّ من الشورى والمشاورة، فعرض جزءًا معتدًّا به من کلمات اللغویِّین، وخلص إلى أنَّ معنى المشاورة والشورى فی کلام العرب هو طلب رأی شخص بصیر. کما یوجد معنى آخر للشورى وهو التشاور بین شخصین أو أکثر لاتخاذ قرار فی موضوع ما.
ثمَّ تعرَّض لمدى دلالة القرآن الکریم على الشورى والمشاورة فی الفتوى، فوجد أنَّ مادة الشورى قد استُعملت فی ثلاثة مواضع من القرآن الکریم. وصبّ بحثه على موردین منها، وهما: الآیة 38 من سورة الشورى[5]، والآیة 159 من سورة آل عمران[6].
أمَّا آیة سورة الشورى، فبیَّن أنَّ الاستدلال بها یتوقَّف على مقدّمات ثلاث:
أ- أن تکون جملة (وأمرهم شورى بینهم) صفة لازمة للمؤمنین، فتدلّ على لزوم الشورى. وقد أثبت هذه المقدّمة ببیانین. وبیَّن بأنَّه حتَّى لو لم تدلّ هذه الآیة على لزوم الشورى، فلا شکَّ بأنَّ المفسرین یستفیدون منها حسن الشورى.
ب- أنَّه یجب أن تکون الشورى بین المتخصِّصین وأهل الفنّ، وفیما یرتبط ببحثنا یجب أن تکون بین الفقهاء، لا بین المؤمنین. واستدلَّ على ذلک بسیرة العقلاء وبسیرة النبی الأعظم(ص) فی موارد الشورى.
ج- أن تکون کلمة (أمرهم) شاملة للفتوى أیضًا؛ فالفتوى هی من الأمور المرتبطة بالمؤمنین، بل هی أهمّ هذه الأمور.
والإشکالُ على هذه المقدّمات الثلاث بعدم عمل المسلمین الأوائل بالشورى فی الفتوى مدفوع؛ لأنَّ سبب عدم عملهم بها هو اعتقادهم بعدم إمکان تحقُّقها فی ذلک الزمن، ولا منافاة بین الشورى وبین الآیات الذامَّة للأکثریَّة؛ لأنَّه لا منافاة بین الآیة التی تشیر إلى أنَّ أکثر الناس لا یعلمون، فیتَّبعون ظنَّهم، وبین أن یتَّبع الناس رأی مجموعة من الخبراء والمتخصِّصین.
وأمَّا آیة سورة آل عمران،فبنى الاستدلال فیها على مقدّمات أربع:
أ- أن تدلّ جملة (شاورهم) على الوجوب الشرعیّ؛ لأنَّها صیغة أمر، ولیست إرشادًا إلى حکم العقلاء حتَّى نحتاج إلى إثبات سیرة العقلاء على لزوم الشورى. فحمل الأمر على الإرشاد خلاف الأصل ومفتقر إلى دلیل. ولو ادُعی القطع بدلالتها على الإرشاد، فإنه یُستفاد منها حسن الشورى على الأقلّ.
ب- أن لا تکون الآیة مختصَّة بالنبی(ص)، بل تشمل سائر المسلمین.
ج- أن لا تکون کلمة (الأمر) المطبّقة على الحرب مختصة بها، بل تکون شاملة للأمور التی لها صلاحیَّة الشورى -بقرینة مناسبة الحکم للموضوع-، فتخرج عنها الأمور قلیلة الأهمِّیَّة.
د- أن یکون المفعول فی جملة (فإذا عزمتَ) محذوفًا، ویُراد منه -بقرینة الآیات السابقة واللاحقة- الأمر المُراد التشاور فیه.
وبسبب ورود بعض الإشکالات على هذه المقدّمات، ذهب الکاتب إلى عدم إمکان الاستدلال بهذه الآیة على الشورى فی الفتوى، بخلاف الآیة الأولى. ثمَّ أشار إلى وجود آیات أخرى تدلّ على حسن المشاورة دون الشورى.
وبعد أن أنهى البحث القرآنیّ، شرع فی البحث الروائیّ، فقسَّم الروایات المرتبطة بالمشاورة إلى طوائف، والروایات المرتبطة بالشورى إلى طوائف -أیضًا-. فمن الطوائف المرتبطة بالمشاورة: ما وردت فیه المشاورة بصیغة الأمر، وما بُیِّن فیها فائدة المشاورة، وما أشارت إلى مشاورات الرسول(ص) فی إدارة أمور المسلمین. ویرى أنَّ هذه الروایات إمَّا متواترة أو مستفیضة، فلا حاجة للبحث عنها من حیث السند. وأشار إلى أنَّها غالبًا ما لا تدلّ على أزید من بناء العقلاء على مشاورة أهل الخبرة. ثم ذکر بعض الطوائف المرتبطة بالشورى: فمنها ما دلَّ على الشورى وترجیح رأی الأکثریَّة، ومنها ما ورد فیه لفظ الشهرة المنسجم مع الأکثریَّة. وخلص إلى أنَّ دعوى استفادة الشورى فی الفتوى من الروایات المذکورة محلّ إشکال. ولو تمَّ دلیل علیها، کبناء العقلاء، فإنَّ هذه الأدلَّة تکون مؤیِّدة لترجیح رأی الأکثریَّة فی صورة التعارض.
وبعد ذلک، عرَّج المؤلِّف على سیرة العقلاء فیما یرتبط بالشورى والمشاورة. فکما میَّز فی المعنى اللغویّ بین الشورى والمشاورة، بیَّن هنا -أیضًا- نحوین من سیرة العقلاء، مع الإشارة إلى أنَّه لا ملازمة بین البحث اللغویّ وبحث السیرة. ولفت إلى أنَّ سیرة العقلاء تصلح دلیلًا على المدّعى فیما لو لم یردع الشارع المقدَّس عنها. ویرى أنَّ الآیات والروایات إن لم تکن کافیة فی إثبات وجوب الشورى، فإنَّها لا أقلّ تُمضی سیرة العقلاء فی باب الشورى. وسیرة العقلاء تدلّ على لزوم الشورى فی مورد الفتوى -أیضًا-. وإن نوقش فی هذا الدلیل -أیضًا-، فإنَّه لا یُناقش فی جواز الشورى أو حسنها، فتدخل فی منطقة الفراغ الولائیَّة، وبالتالی یمکن جعلها لازمة من قبَل ولیّ الأمر. وهذا ما یقبله حتَّى الذی لا یقولون بولایة الفقیه المطلقة.
الفصل الثانی: مناقشة أدلَّة الاجتهاد والتقلید ونسبتها إلى شورى الفتوى:
فی هذا الفصل بدأ بمناقشة أدلَّة الاجتهاد والتقلید وملاحظة سعتها وضیقها بالنسبة إلى مسألة حجِّیَّة الفتوى. ثم بحث نسبتها مع شورى الفتوى، فیما لو دلَّت هذه الأدلَّة على حجِّیَّة الفتوى. ولم یُلاحظ فی هذا الفصل صورة اختلاف الفتاوى أو کون أحد المجتهدین هو الأعلم، بل صبَّ بحثه على حجِّیَّة الشورى فی إصدار الفتوى، وأوکل البحث عن هاتین الصورتین إلى الفصل اللاحق.
ومن الآیات التی بحث عن دلالتها على حجِّیَّة الفتوى: آیة السؤال[7]، وآیة النفر[8]. وبیَّن أنَّ الاستدلال بآیة السؤال على جعل الحجِّیَّة لفتوى الفقیه، متوقِّف على مقدّمات ثلاث:
أ- أن یکون لفظ (أهل الذکر) شاملًا للعالِمین بالقرآن والسنَّة. وبالتالی، یمکن الرجوع إلى الفقهاء لسؤالهم عن الفقه والأحکام، فیکونون من مصادیق أهل الذکر.
ب- أن یکون المراد من الإلزام بالسؤال هو وجوب العمل تعبُّدًا على طبق الجواب، ولیس المراد تحصیل العلم.
ج- أن یکون مفعول (فاسألوا) محذوفًا، فیدلّ حذف المتعلَّق على العموم. وبالتالی، ترجعنا الآیة إلى أهل الذکر فی کلِّ مسألة، ما یشمل الأصول والفروع.
لکنَّ المؤلِّف یرى عدم إمکان الاستدلال بهذه الآیة على جعل الحجِّیَّة التعبُّدیَّة لقول الفقیه، لکنَّها یمکن أن تکون ناظرة إلى حکم عقلائیّ کلِّیّ بحیث ینطبق على الرجوع إلى أهل الخبرة فی کلِّ مسألة -بما فی ذلک الأصول والفروع-. وبالتالی، یکون الدلیل شاملًا لحجِّیَّة فتوى الشورى.
وأمَّا آیة النفر، فقد أشکل أکثر علماء الأصول على الاستدلال بها على إثبات الحجِّیَّة التعبُّدیَّة. وخلص المؤلِّف إلى عدم إمکان الاستدلال بها على جعل الحجِّیَّة التعبُّدیَّة لقول الفقیه.
ثمَّ تعرَّض للروایات، فبیَّن دلالة الکثیر من الروایات على حجِّیَّة فتوى المجتهد بالنسبة إلى العامِّیّ، لکنَّه بحث عن مدى سعتها وضیقها فیما یرتبط بحجِّیَّة شورى الفتوى. فقسَّم هذه الروایات إلى طوائف: ما أرجع إلى عنوان عام (کرواة أحادیثنا والمسنّ فی حبنا)، وما أرجع إلى أفراد محدَّدین (کالإرجاع إلى عثمان بن سعید وابنه، وتأیید فتوى معاذ بن مسلم النحویّ، وأمر القُثَم بن عبَّاس بالإفتاء، والإرجاع إلى محمَّد بن مسلم الثقفیّ والحارث بن المغیرة وزکریا بن آدم ویونس بن عبد الرحمن)، وما دلَّ بالملازمة على حجِّیَّة رأی الفقیه لعموم الناس. وقد أثبت من خلال بعض هذه الروایات أصل حجِّیَّة تقلید شورى الفقهاء، فی مقابل من ینفی حجِّیَّته مطلقًا. لکنَّ هذه الروایات لا تکفی للمنع عن الرجوع إلى فرد واحد، بل إثبات ذلک یحتاج إلى دلیل متمِّم، وهو ما سوف یذکره فی دلیل سیرة العقلاء.
ثم استعرض الدلیل العقلیّ، وبیَّن أنَّ رجوع الجاهل إلى العالم حکم بدیهیّ وجِبِلّیّ وفطریّ. وعقّبه بسیرة العقلاء، وبحثها من جهتین: من جهة کونها دلیلًا للعامِّیّ على التقلید، ومن جهة کونها دلیلًا للمجتهد على التقلید. وذکر فی الجهة الثانیة أنَّ بناء العقلاء على لزوم الرجوع إلى شورى الخبراء لو دار الأمر بینهم وبین الرجوع إلى فرد واحد. لکنَّ ذلک متوقِّف على شرطین: الأوَّل: أن لا یکون الرجوع إلى أهل الخبرة متعذِّرًا، والثانی: أن لا یکون مورد الرجوع من المسائل السخیفة والتی یتسامح العقلاء فیها عادة. وهذان الشرطان متحقِّقان فیما یرتبط بالدین، وبالتالی یلزم الرجوع إلى شورى الفقهاء المتخصِّصین، ولا یُعذر المکلَّف لو اکتفى بقول أحدهم طالما أنَّ الشرطین متحقِّقان. وبالتالی، یکون هذا الدلیل متمِّما لما دلَّت علیه الروایات -کما أشرنا-.
وقد یُشکل على الاستدلال بسیرة العقلاء بأنَّنا نحرز تأخُّر هذه السیرة عن زمن الأئمَّة(علیهم السلام)، فلا نحرز عدم الردع، وبالتالی لا یصحّ الاستدلال بها. وقد أجاب الماتن عن هذا الإشکال بعدَّة أجوبة، منها: أنَّ هذه السیرة کانت موجودة فی زمن الأئمَّة(علیهم السلام)، ثم لو سلَّمنا بعدم وجودها فی زمنهم(علیهم السلام)، لکنَّه یُحکم بحجِّیَّتها؛ لأنَّه یجب على الأئمَّة(علیهم السلام) أن یردعوا -أیضًا- عن السیرة غیر المعاصرة لهم؛ لأنَّهم(علیهم السلام) یعلمون بأنَّ الشیعة -فیما بعد- سوف یُبتلون بهکذا سیرة. ومنها: أنَّه یمکن أن یُستفاد من الأدلَّة حجِّیَّة کلّ بناء عقلائیّ، بتقریب: أنّ الروایات الدالَّة على حجِّیَّة العقل وأنَّه حجة فی عرض الوحی، یُستظهر منها انطباقها على الجهة العقلائیَّة للعقلاء أو شمولها لها.
وخلص إلى أنَّ سیرة العقلاء فی کلِّ مسائل العلوم قائمة على العمل الجماعیّ، والاستفادة من مختلف الآراء والأنظار. وهذه السیرة العامَّة مؤیَّدة من الشرع الإسلامیّ، غایة الأمر أنَّ مصادیقها تختلف من زمان إلى آخر. ولفتَ إلى مسألة، وهی أنَّ تعیین فرد خاصّ -کالأعلم- للرجوع إلیه فی علم الفقه، لهو أمر غیر متعارف فی سائر العلوم والفنون؛ فعندما یُتوفى الأعلم فی أیِّ علم من العلوم –کالطبّ والهندسة وغیرها- لا تراهم ینهمکون فی الفحص عن الأعلم الحیّ. فهل ثمَّة فرق بین علم الفقه وسائر العلوم؟ وهل یصحّ هذا التفکیک بین علم الفقه وسائر العلوم؟
الفصل الثالث: اختلاف الفتاوى:
فی هذا الفصل بیَّن صورة اختلاف فتاوى المجتهدین. والإشکالیَّة التی بحثها فی هذا الفصل هی: لو حصل اختلاف بین أهل الخبرة، واطّلع العقلاء على هذا الاختلاف، فهل تقتضی الأدلَّة الرجوع إلى الأکثریَّة؟ أم تقتضی غیر ذلک؟ فبحث المؤلف هذه الإشکالیَّة من خلال بیان ثلاث صور:
1- صورة تساوی المجتهدین: بحث فیها نتائج أدلَّة حجِّیَّة رأی الفقیه فی حال تعارض رأیه مع الفقهاء المساوین له. ورأى أنَّ بیان هذه الصورة یتوقَّف على بیان أدلَّة التخییر حال تعارض فتویین -بغضّ النظر عن مسألة الأعلمیَّة-. فذکر أدلَّة التخییر من إجماع، وإطلاق دلیل الحجِّیَّة، وإطلاق إرجاع الأئمَّة إلى أفراد محدَّدین وفحوى أخبار التخییر فی روایات التعارض وسیرة العقلاء. وأشکل على أدلَّة التخییر کلِّها، فلم یتمّ عنده دلیل على التخییر. وبناءً علیه، لا یمکن لهذه الأدلَّة أن تنفی الالتزام بالشورى. ولو تمَّت بعض الأدلَّة، فهی تتمُّ فیما لو لم یکن ثمَّة مرجِّحات عقلائیَّة کأکثریَّة أهل الخبرة. ومن البدیهیّ أنَّ القول بالتساقط لا یحتاج إلى دلیل، ففی صورة عدم وجود مرجِّح، یکون الأصل فی التعارض هو التساقط. وأشار فی نهایة هذه الفقرة من البحث إلى أنَّه یبعد عدم وجود مرجِّحات کمِّیَّة أو کیفیَّة.
2- شرط الأعلمیَّة: بحث فیه أدلَّة هذا الشرط، وعلاقته بشورى الفقهاء؛ فلو لزم اتِّباع رأی الأعلم، فإن لم یکن الأعلم فی الشورى، کان رأی الشورى فاقدًا للاعتبار؛ وإن کان فی الشورى وفی الأقلِّیَّة، لزم اتِّباع رأیه أیضًا، فعلى کلِّ حال، دلیل حجِّیَّة قول الأعلم یمنع من التمسُّک برأی الشورى؛ لذا لا بدَّ من التعرّض لشرطیَّة الأعلمیَّة. وقد ذکر أوَّلًا لمحة تاریخیَّة عن مسألة الأعلمیَّة، ثم قسَّم بحث الأدلَّة إلى قسمین؛ لأنَّ الأدلَّة فی الکتب الأصولیَّة طائفتان: أدلَّة على ترجیح قول الأعلم، وأدلَّة على التخییر بین الأعلم وغیر الأعلم، فذکر خمسة أدلَّة على ترجیح قول الأعلم، وهی: الأخبار، الإجماع، الأقربیَّة والأقوائیَّة، بناء العقلاء، دوران الأمر بین التعیین والتخییر. ووصل إلى أنَّ الأدلَّة اللفظیَّة والأدلَّة اللبِّیَّة غیر آبیة عن شمول الشورى، واستنتج بأنَّ الأعلمیَّة لا یمکن أن تکون إشکالًا مانعًا من التمسُّک بالشورى. ثم تعرّض لأدلَّة التخییر من: إطلاق الأدلَّة اللفظیَّة، وفحوى أخبار التخییر، والإطلاق المقامیّ، وصعوبة شرط الأعلمیَّة. واستنتج عدم تمامیَّة أدلَّة شرط الأعلمیَّة. بل لو تمَّت، فهی تدلّ من باب أولى على نظریَّة الشورى. وبناءً علیه، حتى لو لم تتمّ دلالة الأدلَّة اللفظیَّة -کآیة الشورى- على الشورى، فإنَّ شرط الأعلمیَّة لا یمکن أن یکون مانعًا من القول بها.
3- رأی الإسلام فی اختلاف الآراء والأنظار: بحث فیه حسن اختلاف الآراء أو قبحها من وجهة نظر الإسلام، فذکر أنَّ البعض یعتقد أنَّ اختلاف الفقهاء رحمة؛ وسبب هذا الاعتقاد هو الاستناد إلى حدیث "اختلاف أمَّتی رحمة". وقد عرض المؤلِّف الروایات الدالَّة على هذا المضمون وناقشها، وبیَّن احتمالین فی الروایات: فکما یُحتمل أن یکون الاختلاف بمعنى الاختلاف فی الآراء والأنظار، کذلک یُحتمل أن یکون المراد من الاختلاف هو الرجوع والسؤال من أجل التعلُّم. وخلص إلى أنَّ الشواهد تدلُّ على ذمِّ الاختلاف فی أصول الدین وفروعه، وأنَّ المسلمین مکلَّفون -حتَّى المقدور وبواسطة الطرق العقلائیَّة- أن یجتنبوا عن هذا الاختلاف. نعم، هذا الذمّ یأتی عندما ینسحب الاختلاف النظریّ إلى ساحة العمل فیوجب شقّ الصفوف. أمَّا لو بقی الاختلاف على المستوى النظریّ، وکان ثمَّة معیار صحیح لاختیار أحد الآراء لتطبیقه فی ساحة العمل، فلا شکَّ فی أنَّ هذا الاختلاف سبب لترقّی العلوم وتکاملها.
وأمَّا فی الخاتمة: فتعرَّض لإحدى المشکلات الجدِّیَّة فی المجتمع الإسلامیّ وهی العلاقة بین ولیّ الأمر وبین سائر المراجع. ورأى أنَّه یلزم تقدیم ولایة الولی على فتوى المرجع فی مقام العمل. وأشار فی النهایة إلى بعض الاقتراحات العملیَّة المرتبطة بشورى الفتوى، من قبیل: انتخاب الأعضاء وکیفیَّة عمل الشورى، فذکر لها ثلاث مراحل، وعلاقة الشورى بالولایة حیث بیَّن فیها صورتین لمشارکة ولیّ الأمر فی شورى الإفتاء.
وقفة نقدیَّة:
لا یخفى أنَّ ما قدَّمه الکاتب هو جهد مبارک، لکن سنحت فی بالنا بعض الملاحظات على ما کتبه:
1. استدلَّ الکاتب على لزوم الشورى بکون الشورى فی آیة (وأمرهم شورى بینهم) صفة لازمة للمؤمنین. وهو یرید من الشورى: الخروج بنتیجة واحدة هی حاصل رأی الأکثریَّة. وهنا نسأل: لماذا حمل الکاتب لفظ (الشورى) على هذا المعنى الذی بیّنه ولم یحمله على التشاور؟ والمستفاد من اللغة فی معنى الشورى هو استخراج الرأی بمراجعة البعض البعضَ الآخر، ولیس فیه ما یدلّ على لزوم الأخذ بقول الأکثر!
2. استدلَّ الکاتب على لزوم الشورى بإمضاء الآیات لسیرة العقلاء فی المقام. ولکنَّ هذا الاستدلال متوقِّف على إثبات کون الآیات ناظرة إلى السیرة. وهذا یبتنی على حمل لفظ الشورى الوارد فی الآیات على المعنى الذی بیّنه الکاتب للشورى، وهذا ما استبعدناه فی النقطة السابقة.
مضافًا إلى أنَّنا لا نسلِّم وجود مثل هذه السیرة بین العقلاء. وإن شئتَ لاحِظِ العقلاء کیف یعتمدون فی نظامهم على المستشارین فیأخذون برأیهم، لکن مع ذلک تنحصر وظیفة المستشار فی النصح وإبداء الرأی، ولیس المستشیر ملزَمًا بالعمل بقول الأکثریَّة.
3. لقد غفل الکاتب فی بحثه عن العدید من الآیات القرآنیَّة التی تنفع فی هذا البحث. وسوف نبیِّن کیف یمکن أن یُستدلّ بها على عدم لزوم الشورى، وإن کان یمکن بیان تقریبات أخرى لها. ومن هذه الآیات نذکر:
أ- {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِیدٍ وَالْأَمْرُ إِلَیْکِ فَانظُرِی مَاذَا تَأْمُرِینَ}[9]، إذ من الواضح فی هذه الآیة أنَّ بلقیس استشارت قومها، فأشاروا علیها، وترکوا الحکم لها؛ لأنَّهم یعلمون أنَّ وظیفتهم تنحصر فی إبداء الرأی ولا یجب أن یکون القرار تابعًا لما یراه أکثرهم.
ب- {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِیکُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ یُطِیعُکُمْ فِی کَثِیرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰکِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَیْکُمُ الْإِیمَانَ وَزَیَّنَهُ فِی قُلُوبِکُمْ وَکَرَّهَ إِلَیْکُمُ الْکُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْیَانَ ۚ أُولَٰئِکَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[10]، إذ تدلّ هذه الآیة على أنَّه لو أُلزم رسول الله(ص) باتباع رأی أمَّته لوقعت فی العنَت والمشقة.
ج- {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ}[11]، حیث إنَّها تنهى عن التقدّم على رسول الله(ص). والقول بلزوم الأخذ بحکم الأکثر هو نوع من أنواع التقدّم على الرسول(ص) إن کان معارضًا لرأیهم.
د- {وَشَاوِرْهُمْ فِی الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَى اللهِ}[12]، والآیة کالنصّ فی عدم إلزام الشورى للمستشیر.
نعم، الآیات الثلاث الأخیرة لا تُلزم المعصوم بالشورى، والفرق بین المعصوم وغیره جَلِیّ، والکلام على إلزام شورى الفقهاء للمقلّدین.
[1] طالب فی مرحلة الماجستیر فی جامعة المصطفى(ص) العالمیَّة فی مدینة قم المقدَّسة.
[2] شورى الإفتاء.
[3] انظر: موقع المؤلف على صفحة الانترنت: https://www.shahriari.ir/bio-abs؛ تاریخ الدخول: 11/ 3/ 2018.
[4] سیتَّضح فیما بعد أنَّ الکاتب قد فرّق بینهما، فانتظر.
[5] {وَالَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَیْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنْفِقُونَ}.
[6] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ}.
[7] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلاَ رِجَالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنبیاء، الآیة 7).
[8] {وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ} (سورة التوبة، الآیة 122).
[9] سورة النمل، الآیة 33.
[10] سورة الحجرات، الآیة 7.
[11] سورة الحجرات، الآیة 1.
[12] سورة آل عمران، الآیة 159.