نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
جامعة المصطفى (ص) العالمیَّة
المستخلص
نقاط رئيسية
أولاً: المقاربة المفهومیَّة النقدیَّة
ثانیاً: المقاربة الجزئیَّة لبعض موادّ المشروع بأحکام الشریعة الإسلامیَّة
الكلمات الرئيسية
الزواج المدنیّ
-دراسة نقدیَّة مقارنة لمشروع قانونٍ لبنانیٍّ للأحوال الشخصیَّة-
الشیخ الدکتور محمد شقیر[1]
خلاصة:
ناقشت هذه المقالة مشروع قانون الزواج المدنیّ المقدَّم إلى مجلس النوَّاب اللبنانیّ[2] بتاریخ 18/3/2011. وقد تمَّت المناقشة على أساس مستویَیْن:
المستوى الأوَّل: دراسة المفاهیم التی یدَّعی أصحاب هذا المشروع أنّها مفاهیم موجِبة لطرحه، وهی التی دفعتهم لتبنّیه. وکان من أهمّ هذه المفاهیم: مفهوم العدالة، الطائفیَّة، التطوُّر العلمیّ، سیادة الدولة، والإنسانیَّة. وقد تبیَّن بعد دراسة هذه المفاهیم دراسة تحلیلیَّة نقدیَّة أنّها تشکِّل فی حدِّ نفسها أسبابًا موجِبة لرفض المشروع، على العکس تمامًا ممَّا ادُعی من کونها موجِبة لتبنّیه وطرحه.
المستوى الثانی: مقارنة بعض موادِّ هذا المشروع بأحکام الشریعة الإسلامیَّة، حیث تبیَّن مخالفتها لها مخالفة صریحة واضحة، ومن أهمّ المسائل التی وقعت موقع المقارنة: الزواج من حیث شروطه وموانعه والسنّ المعتبر فیه، الطلاق والهجر، وأحکام العدَّة.
کلمات مفتاحیَّة:
الزواج المدنیّ، العدالة، الطائفیَّة، التطوُّر العلمیّ، السیادة، الإنسانیَّة، موانع الزواج، شروط الزواج، سنّ الزواج، صیغة العقد، الطلاق والهجر، العدَّة.
مقدّمة:
لقد عُمل فی السنوات الماضیة على الترویج بقوَّة لمشروع الزواج المدنیّ، وکان یغلب على هذا الترویج الأسلوب الدِعائیّ (غیر العلمیّ)، الذی یهدف إلى تلمیع فکرة الزواج المدنیّ وتسویقها، وقد التبس الأمر على العدید من الناس، بمن فیهم أولئک الذین یحافظون اعتقادهم الإیمانیّ، ویمارسون التزامهم الدینیّ فی الجانب العملیّ.
ولعلّ السبب فی هذا الالتباس -إضافةً إلى الأسلوب الترویجیّ الدعائیّ- هو عدم التفات هؤلاء إلى مخالفة مشاریع قانون الزواج المدنیّ -أو تلک القوانین المعمول بها فی العدید من الدول- ما جاء فی القرآن الکریم مخالفة صریحة، کما تعارض سُنَّة النبی(ص) وأهل بیته(علیهم السلام)، فضلًا عن اعتمادها على مجموعة من المبرّرات والأسباب الموجبة التی تنطوی على أکثر من نقطة ضعف، فهی مشاریع رکیکة لا تصمد أمام النقد والتحلیل.
ومن هنا، کان من المفید أن نبادر إلى القیام بدراسة مقارنة بین مصادر التشریع فی الإسلام (القرآن والسنّة (...)) فی نصوصها ذات الصلة، وبین واحدٍ من مشاریع قانون الزواج المدنیّ فی نماذج محدّدة من موادّه التی تتضمَّن مخالفة صریحة وواضحة لما جاء فی القرآن الکریم، أو لسنّة النبی(ص) وأهل بیته(علیهم السلام)؛ لتکون نموذجًا یستفاد منه فی تقویم بقیَّة موادّ ذلک المشروع، على أن یسبق ذلک مقاربة نقدیَّة تحلیلیَّة لبعضٍ من أهمّ الأسباب الموجِبة، وتحدیدًا فی تلک المفاهیم التی تمَّ استخدامها فیها، أو توظیفها لدیها.
وهذا ما سوف یساهم فی التنبیه على خطورة مثل هذه المشاریع، کما یساعد فی إیقاظ بعض الناس من حالة الانبهار التی عاشها نتیجة ذلک الکم من التضلیل الإعلامیّ الذی مارسته قنوات تلفزیونیَّة ووسائل إعلامیَّة عدیدة، بهدف التسویق لتلک الأفکار التی تنتمی إلى منظومة الزواج المدنیّ وقوانینها المختلفة، ومشاریعها المتکثّرة.
وسوف نختار للمقارنة نماذج من الموادّ التی ترتبط بعناوین الزواج، والطلاق، والهجر-أیضًا-، والعدّة؛ وذلک لما لهذه الموادّ من أهمِّیَّة، من حیث خطورةُ بعض النتائج التی قد تترتَّب على مخالفتها للأحکام الشرعیَّة الإسلامیَّة، ولأنَّ إعمال المقارنة فی تلک الموادّ قد یساهم أکثر فی تحقیق أهداف هذه الدراسة وإنجاح وظیفتها، وقد یساعد على فهم أفضل لهذه الموادّ، ولما یمکن أن یترتّب علیها، ویُوجِّه انتباه الناس إلى لوازم هذه الآثار والمترتِّبات فی موضوع خطیر وعامّ البلوى، یُعرض فی مجتمع حسَّاس تجاه ما یمسّ بأحکام الدین.
هذا، وإنْ کانت مخالفة القرآن الکریم والسنَّة فی أیٍّ من الأحکام الشرعیَّة قد تترتّب علیها نتائج لا تقلّ خطورة عن تلک النتائج مورد الدراسة، إذا استلزمت المخالفةُ الإعراضَ عن تلک الأحکام ورفضَها، ولازم ذلک التراجعُ عن الإیمان بکتاب الله وبنبوّة النبیّ(ص)، وبخاصَّة إذا کانت هذه الملازمة واضحة لدى من یمارس هذا الإعراض والرفض.
ومن هنا سوف نعمل على تقسیم هذه الدراسة إلى قسمین:
- القسم الأوَّل: یتناول تلک المقاربة المفهومیَّة النقدیَّة
- القسم الثانی: یتناول تلک المقارنة الجزئیَّة.
أوَّلًا: المقاربة المفهومیَّة النقدیَّة:
وسوف نقتصر فی هذا القسم على جملة من المفاهیم، التی یُعمل على استغلالها فی مشاریع القوانین تلک؛ وذلک بهدف الانتقاص من القوانین الدینیَّة أو التشریعات الإلهیَّة، وبهدف توظیفها فی ممارسة أکثر من ادّعاء فی التمیّز والتطوّر، وحیازة جملة من العناوین التی یتوقَّعون من خلالها مستوى أعلى من المقبولیَّة لدى الناس.
ومن تلک المفاهیم المستخدمة التی أدرجت فی الأسباب الموجِبة لمشروع القانون، ما یأتی:
1-العدالة: حیث جاء فی متن المشروع ما نصّه:
"سابعًا: لا یقوم زواج إلا على مبدأ العدالة العائلیَّة والمساواة بین المرأة والرجل (....)"[3].
من الواضح لمن یقرأ هذا النصّ وغیره أنَّ ثمَّة سوء فهم للعدالة وحقیقتها لدى واضعی ذلک المشروع؛ حیث إنّه لم یتمّ استخدام هذا المفهوم بشکل علمیّ. والدلیل على ذلک هو الخلط بین مفهوم العدالة ومفهوم المساواة، بل ادّعاء التلازم بینهما، حیث جاء -تالیًا- فی ذلک المتن: "انطلاقًا من مبدأ العدالة (....) کان لا بدَّ من إقرار المساواة"[4].
ولا بدّ من القول إنّ مفهوم العدالة یختلف جوهریًّا عن مفهوم المساواة، حیث إنّ بعض المساواة عدل، لکن بعض المساواة ظلم. أی إنّه لیس کلّ مساواة عدلًا، ولیس کلّ عدل مساواة. ولیس صحیحًا القول بالتطابق بین العدل والمساواة، لا من ناحیة مفهومیَّة، ولا من ناحیة مصداقیَّة.
ولذا لا یصحّ ادّعاء التلازم بین العدل والمساواة؛ لأنَّ بعض المساواة یستلزم اللاعدالة، کما إنَّ بعض العدالة یستلزم اللامساواة. وکما إنّ الاختلاف المفهومیّ قائم بین المفهومین، فإنّ اختلاف مصادیقهما ممکن أیضًا.
لنأخذ على ذلک مثالًا: لو کان لدینا فقیرٌ وغنیّ، وأردنا أن نضع قانونًا ضریبیًّا، فإنّ المساواة تتطلَّب أن نأخذ ضریبة من الغنیّ تساوی الضریبة التی نأخذها من الفقیر، بینما مقتضى العدالة أن نأخذ من الغنیّ بلحاظ قدرته -فضلًا عن حیثیَّات أخرى-، وأن نأخذ من الفقیر بلحاظ قدرته -فضلًا عن حیثیَّات أخرى-. فهنا مساواة الفقیر بالغنیّ من حیث الضریبة ظلم، بینما اللامساواة بینهما عدل، ففی هذا الحال هل نختار المساواة الضریبیَّة، أم نختار العدالة الضریبیَّة؟.
بناء على ما تقدَّم، فإنَّه لا بدّ أن یکون المبدأ الذی یجب الارتکاز علیه فی التشریع -سواء فی الأحوال الشخصیَّة، أم فی غیرها- هو العدل لا المساواة؛ لأنّ العدل لا یمکن أن یجتمع مع الظلم، بینما یصحّ اجتماع الظلم مع المساواة.
وبناءً علیه، یمکن القول إنّ هذا الخلط الذی وقع فیه من وضع هذا المشروع یجعله عرضة للسقوط أو الاهتزاز؛ لأنّ مؤدّى هذا الخلط لا یقتصر على موضعٍ محدَّد، حیث إنَّه یؤدِّی إلى وقوع خللٍ بنیویٍّ یصیب مجمل موادّ هذا المشروع وبنیته، من جهة کونه من المفاهیم الرئیسة التی یقوم علیها ویرتکز إلیها.
2- الطائفیَّة والطوائف: حیث یتعمّد واضعو تلک المشاریع -إمعانًا فی مزید من التشویه والانتقاص- إلصاق بعض الأوصاف المذمومة بالتشریع الإسلامیّ (وغیره)، تلک الأوصاف التی قد تُحدِث نوع نفور، ما یدفع بعض الناس إلى الابتعاد عن ذلک التشریع، کما قد یظنّ هؤلاء.
فقد جاء فی متن ذلک المشروع ما یلی:
"(....) إقرار قانون لبنانیّ وطنیّ لا طائفیّ للأحوال الشخصیَّة"[5].
"(....) لقوانین حصریَّة للطوائف (....)" [6]
"(....) وجود قوانین الأحوال الشخصیَّة للطوائف (....)".[7]
وغیرها من العبارات التی حملت المعنى نفسه.
وما ینبغی قوله فی هذا المقام:
أ- إنَّ اعتماد تلک اللغة، وتلک الأوصاف یشی بموقف هؤلاء الحقیقیّ من الدّین وتشریعه، فضلًا عن مجمل طروحاتهم فی هذا السیاق.
ب- الدّین حقیقة، والطائفیَّة حقیقة أخرى، وهناک العدید من المفارقات والاختلافات بینهما، ولا یصحّ الخلط بینهما، سواء أکان عن درایة أم عن غیر درایة.
ج- إنّ ما تقدّم یکشف عن عدم معرفة هؤلاء بالدّین وتشریعه، وعن أکثر من سلبیَّة فی الموقف منه، تدفعهم إلى عدم البحث فیه بشکل علمیّ، وإلى عدم مقاربته بطریقة موضوعیَّة.
د- لیست النزعة الطائفیَّة مصدرًا للتشریع الإسلامیّ، ولیس التشریع نتاجًا للطائفیَّة، وإنّما هو تشریع مستمدّق من مصادر التشریع فی الإسلام (القرآن والسنَّة).
ه- إنَّ التزام طائفة أو أکثر بهذا التشریع لا تجعل منه تشریعًا طائفیًّا، وإنّما هو تشریع عالمیّ یتعدَّى فی طبیعته حدود هذه الطائفة أو تلک، فهو لم یشرّع لطائفة دون أخرى، أو لمجتمع دون آخر، فهو تشریع یراعی مصلحة الإنسان. والتزام طائفة به دون أخرى لا یغیِّر من حقیقته تلک.
و- عندما یعمد البرلمان اللبنانیّ إلى إصدار قانون یسمح باعتماد التشریع الإسلامیّ فی الأحوال الشخصیَّة، فإنّ هذا التشریع یصبح وطنیًّا ولبنانیًّا، لأنَّ البرلمان اللبنانیّ هو الذی شرّع اعتماده فی الوطن.
ز- إنّ اعتماد قوانین متعدِّدة فی الأحوال الشخصیَّة للطوائف فی لبنان، هو نتاج الطبیعة التعدُّدیَّة للمجتمع اللبنانیّ، ومبدأ الحرِّیّة فیه؛ فلماذا یعاب على هذا المجتمع (أو المجتمعات) إذا کان هذا المجتمع نفسه قد ارتضى هذا التعدّد التشریعیّ لنفسه؟ ولماذا یُعمل على مدح هذه التعددیَّة فی موضع[8]، ویعمل على ذمّها فی آخر؟
وإذا کان هذا التعدُّد فی قوانین الأحوال الشخصیَّة فی لبنان ینسجم مع طبیعة الاجتماع اللبنانیّ، ویعبّر عنه، ویریحه؛ فما الضیر فی ذلک؟ ألیس هذا من تجلِّیات الحرِّیَّة الاجتماعیَّة فی الإطار القانونیّ؟ وکیف یُدعى إلى احترام الحرِّیّة فی هذا السیاق[9]، ثم یُعمد إلى مهاجمة نتاج تلک الحرِّیَّة، عندما لا تتماشى مع قناعاتهم فی الزواج المدنیّ؟ کیف یمارسون هذا التظاهر بقبول قانون مدنیٍّ للزواج إلى جانب ما یسمُّونه بقوانین الطوائف، وهم فی الوقت نفسه یهاجمون هذه القوانین، وینعتونها بتلک الأوصاف المذمومة، وکأنَّهم یعانون ازدواجیَّة، أو انفصامًا فکریًّا فی الموقف منها.
ح- إنّ تشریع قانون مدنیٍّ للأحوال الشخصیَّة فی لبنان لن یؤدِّی إلَّا إلى إنتاج طائفة جدیدة فی مجال الأحوال الشخصیَّة؛ بل ربّما فی غیره، وهی طائفة اللادینیِّین فی ما یرتبط بالأحوال الشخصیَّة، لنصبح أمام قانون أحوال شخصیَّة جدید، لطائفة جدیدة، تضاف إلى بقیَّة الطوائف.
وعلیه فإن الداعین إلى إقرار ذلک المشروع سیقعون فی المشکلة نفسها التی یدَّعون أنَّهم یهربون منها؛ حیث سیؤدِّی تطبیق القانون إلى زیادة الطوائف وعددها، وقد یدفع نحو تسعیر الجدل الطائفیِّ فی بعض الموارد، لیتَّضح لاحقًا أنَّ مثل هذه المشاریع سوف تؤدِّی إلى مفاقمة هذه المشکلة التی یدَّعون وجودها، لا إلى العمل على حلِّها وعلاجها.
3- التطوُّر العلمیّ: هنا یبلغ الإدعاء ذروته؛ إذ تراهم یذکرون فی الأسباب الموجِبة للمشروع أنَّ ما یقترحونه هو حصیلة ذلک التطوُّر العلمیّ فی مختلف العلوم، بل هم یوجِّهون اتهاماتهم لتلک القوانین الشرعیَّة بأنَّها لا تواکب تطوُّر العلوم، لیصنِّفوا تلک القوانین فی خانة عدم التطوُّر، والتقدُّم...
ولذلک -وفی سیاق تحمیلهم لتلک القوانین مسؤولیَّة ما یعبّرون عنه بالواقع الألیم، والانتهاکات التی یتعرَّض لها العدید من الناس- یذکرون بأنّ تلک الانتهاکات هی "بموجب مفاعیل هذه القوانین القدیمة وغیر المواکبة لتطوُّر علوم التربیة والاجتماع وعلم النفس وحقوق الطفل"[10]، وغیر ذلک من التعابیر المشابهة.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التی تتَّصل بهذا التوظیف:
أ- کیف یثبتون أنَّ ما یقدِّمونه من تشریع تثبته علوم التربیة، والاجتماع، وعلم النفس...؟
ب- کیف یثبتون أنَّ التشریع الإسلامیّ یتعارض مع ما انتهت إلیه تلک العلوم؟
ج- إذا کان مفاد نتاج تلک العلوم هو تحقیق السعادة والعدالة التی یدَّعون أنَّها ثمرة الزواج المدنیّ، وإذا کان الواقع الألیم ثمرة تلک القوانین الأخرى؛ لکان من اللازم على هؤلاء أن یدعوا إلى قانون إلزامیّ للزواج المدنیّ، وأن یرفضوا أیّ قانون آخر، لکنَّنا نرى أنّهم یدعون إلى قانون مدنیّ اختیاریّ، یضاف إلى بقیّة القوانین المعمول بها.
د- هل ما تقدِّمه تلک العلوم هو حقیقة علمیَّة لا تقبل الخطأ والشکّ والتغییر، أم إنّها وجهة نظر علمیَّة تحتمل الخطأ والشکّ والتغییر..؟
إنْ کان ما یقدِّمونه حقائق علمیَّة، فلیأتوا بالأدلَّة على ذلک -مع أنَّ مجرَّد کلامهم عن تطوُّر العلوم قد یفضی إلى کون ما یستندون علیه من تلک العلوم لیس حقائق علمیَّة؛ لأنّ التطوُّر قد یعنی، فیما یعنیه، احتمال أن یکون الرأی العلمیّ السابق خاطئًا-؛ وإنْ کان ما یقدِّمونه وجهة نظر علمیَّة، فکیف لهم أن یبنوا تشریعًا للأحوال الشخصیَّة وللأسرة على وجهات نظرٍ غیر ثابتة علمیًّا؟
ه- هم یدَّعون أنَّ ما یقدِّمونه من مشروع یهدفون من خلاله الوصول إلى العدالة وتحقیقها، ولربَّما السعادة الزوجیَّة والعائلیَّة...، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: کیف لنا أن نجزم، بأنَّ ما لدینا من مشاریع قوانین فی الأحوال الشخصیَّة توصل حتمًا إلى العدالة والسعادة، إذا کانت هذه المشاریع تقوم على وجهات نظر علمیَّة تقبل الخطأ والتغییر؟ فهل یمکن لمقدِّمات غیر یقینیَّة ویُحتمل وقوع الخطأ فیها أن تؤدِّی إلى نتائج صحیحة ویقینیّة حتمًا؟ هل یمکن أن یدّعی أحد بأنَّه سوف یأتی بالسعادة والعدالة، وهو لا یرتکز فی مشروعه على أرضیَّة یقینیَّة، أو على حقائق علمیَّة للوصول إلى تلک الأهداف والنتائج التی یدَّعی أنَّ مشروعه یُوصل إلیها؟.
هل من الصحیح أن یُعمل على إیهام الناس بأنَّ أمثال مشاریع القوانین هذه، سوف تأتی لهم بالسعادة والعدالة... وهی تفتقر إلى الأدلَّة العلمیَّة، التی تسمح لنا أن نطمئنَّ ونجزم بأنَّه إذا اعتمدنا هذا السبیل، سوف نصل إلى تلک النتائج حتمًا، ولن نصل إلى ما یتنافى معها؟
إنّ بیع الأوهام للناس لیس الطریق الصحیح لممارسة التسویق والترویج، ومن یبنی بیته (التشریعیّ) على الرمال، فلن یصمد أمام الریاح، ولن یحمی ساکنیه، بل سوف یصبح هو نفسه الخطر الأکبر علیهم.
و- إذا کانت دعواهم أنَّهم یرتکزون فی مشاریعهم على حقائق علمیَّة، فالحقائق العلمیَّة لا تختلف بین مدرسة علمیَّة وأخرى، ولا بین عالمٍ وآخر. وهذا ما یستلزم أن تکون مشاریع قوانین الزواج المدنیّ أو القوانین المختلفة المعمول بها نفسها متطابقةَ الموادِّ، وألَّا یکون ثمّة اختلاف فیما بینها؛ ولکنَّنا نجد فی الواقع أنَّ تلک المشاریع والقوانین المعمول بها فی مجمل البلدان مختلفة فیما بینها اختلافًا فاحشًا، حیث إنَّ ثمَّة اختلافًا فی کثیر من موادّها.
کما لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ تلک المشاریع تفتقد إلى المعیار الذی یمکن على أساسه القول إنّ ما جاء به مشروع قانون الزواج المدنیّ هذا صحیح، وما جاء به ذاک خطأ، وإذا کان یوجد معیار یمکن على أساسه التمییز بینهما من خلاله معاینة تلک المشاریع ودراستها والمقارنة بینها، فلیأتوا بهذا المعیار، ولیخبرونا به.
ولسائلٍ أن یسأل، أنه لو کان هناک عشرة آراء وضعیَّة لمشاریع قوانین أو قوانین زواج مدنیّ فی قضیَّة من قضایا الأحوال الشخصیَّة؛ فأیٌّ من تلک الآراء هو الصحیح، وأیُّها الخاطئ؟ أیٌّ منها یوصل إلى العدالة، وأیُّها لا یوصل إلى العدالة؟ أیٌّ منها یوصل إلى السعادة، وأیُّها لا یوصل إلى السعادة؟ والأهمُّ من ذلک، کیف نعرف أنَّ هذا الرأی یوصل إلى العدالة والسعادة، أو لا یوصل إلیهما؟
وقبل کلِّ ما تقدَّم من أسئلة، هل یمکن أن نعرف ذلک، أم لا؟ وهل هذه الآراء التی وردت فی مشاریع الزواج المدنیّ هی آراء علمیَّة توصل یقینًا إلى تلک النتائج؛ فلو کانت آراء علمیَّة تعبِّر عن حقائق علمیَّة یقینیَّة وأکیدة، فلماذا هذا الاختلاف الفاحش فیما بینها؟ وإذا کانت مجرَّد وجهات نظر -لا أکثر، ولا أقل-، فهل یتحمّل المجتمع وتتحمَّل الأسرة أن یتحوَّلا إلى مختبر لعشرات الآراء، التی تحاول إغراء الناس بمقولات التطوُّر العلمیّ وتقدُّم العلوم وغیر ذلک، فی حین أنّها قد تؤدّی إلى نتائج عکسیَّة على خلاف ما یدّعیه هؤلاء، کأن تؤدِّی إلى دمار المجتمع وتدمیر الأسرة؛ لأنّ نتائجها المدّعاة هی نتائج غیر مدعومة علمیًّا؟ فهل من الصحیح تحویل الأسرة إلى میدان اختبار؟ وهل من الصحیح أخلاقیًّا أن یدّعی واضعو ذلک المشروع أنَّهم سوف یقودون الناس إلى السعادة والعدالة... مع إنَّهم لا یملکون الأدلَّة العلمیَّة الیقینیَّة التی تثبت أنَّ ما سوف یأخذون الناس إلیه هو السعادة والعدالة، ولیس الظلم والتعاسة؟
ز- إذا کانت مشاریع الزواج المدنیّ وقوانینه ترتکز -کما یقولون- على العلوم، وإذا کانت هذه العلوم غیر ثابتة؛ فهذا یعنی بالضرورة أن تلک المشاریع والقوانین لن تکون ثابتة؛ لأنَّ الأساس الذی ترتکز علیه غیر ثابت، وبالتالی سوف تکون عرضة لتغیّر موادّها بشکل دائم، کلَّما استجدّ جدید فی تلک العلوم یرتبط بأیٍّ من تلک الموادّ.
ویترتَّب على ذلک جملة من النتائج والأسئلة، أمّا النتائج، فهی ذات بعدین: قانونیّ واجتماعیّ، بمعنى أنَّ تغیُّر العلوم سوف یؤدِّی إلى تغیُّر القوانین التی ترتکز على تلک العلوم، وتغیُّر القوانین سوف یؤدِّی بدوره إلى تغیُّر تلک الأوضاع الاجتماعیَّة التی ترتبط بتلک القوانین، ومعنى ذلک أنَّ ما سوف یحکم على هذین البعدین هو عدم الاستقرار الدائم، ولهذا النوع من عدم الاستقرار الکثیر من السلبیَّات.
ولا بّد من التأکید فی هذا السیاق على أنَّ ثمَّة جوانب فطریَّة ثابتة فی الشخصیَّة الإنسانیَّة، وهذه الجوانب تتطلَّب تشریعات ثابتة لا تتغیَّر بتغیُّر الظروف والأحوال...، فکیف تستقیم تلک المشاریع التی هی عرضة للتغیُّر الدائم مع حاجة الطبیعة الإنسانیَّة إلى تلک التشریعات الثابتة، التی تلامس تلک الجوانب الفطریَّة الثابتة فیها؟
ح- عندما نتأمَّل فی تلک العلوم نجد أنَّه یوجد فی کل علم مدارس، واتجاهات، وآراء مختلفة؛ وهنا یصبح السؤال مشروعًا، وهو أنّه ما هی تلک المدارس، أو الآراء، أو الاتجاهات التی تشکِّل منطلقًا لبناء هذا المشروع أو ذاک، أو لتشریع هذه المادَّة أو تلک؟
هل یوجد معیار لدى هؤلاء یُستند علیه لترجیح هذه المدرسة العلمیَّة أو تلک، أو لتبنّی هذا الرأی العلمیّ أو ذاک؟
وإذا کان هذا المعیار موجودًا، فلیقوموا بعملیَّة الترجیح تلک، ولیبرزوا المرجِّحات العلمیَّة التی جعلتهم یتبنون هذا الرأی، أو التی دفعتهم إلى اختیار تلک المادَّة، أو برَّرت لهم اعتماد ذلک المشروع.
ط- أمّا فیما یتصل بوصف قوانین الأحوال الشخصیَّة المعمول بها -بما فیها الإسلامیَّة- بأنَّها قدیمة وغیر مواکبة لتطوُّر العلوم، فالذی ینبغی قوله هو أنَّ التشریع الإسلامیَّ المستمدّ أو المستنبط من القرآن والسنّة قادر فی بنیته المنهجیَّة على مواکبة أیِّ تطوُّر علمیّ، شریطة أن یکون ما أفضى إلیه هذا التطوُّر العلمیّ معبِّرًا عن حقائق علمیَّة قطعیَّة، ولیس مجرَّد أمور ظنیَّة، ففی هذا الحال یترتَّب أثرٌ شرعیّ على أیَّة حقیقة علمیَّة قطعیَّة، تتصل بأیٍّ من قضایا الأحوال الشخصیَّة، أو غیرها من الأحکام الشرعیَّة.
وهذا ما یسمح لمنهجیَّة التشریع الإسلامیّ أن تواکب التطوُّر العلمیّ، وأن تستفید من نتاج مختلف العلوم، لکن على أرضٍ علمیَّة ثابتة، ومستقرَّة، وغیر متزلزلة.
أمّا وصف تلک القوانین بالقدم (قدیمة)، فیهدف إلى ادّعاء التمیّز والجِدَّة (جدید) لمشاریع قوانین الزواج المدنیّ، وتحدیدًا المشروع الأنموذج مورد البحث؛ ولکنَّنا نقول فی مقام التعلیق إنّ القِدم والجِدة لیست معیارًا لصِحَّة القانون؛ بل المعیار فی صِحَّة القانون أن یکون عادلًا، فقد یکون القانون قدیمًا، لکنّه یکون عادلًا ومطابقًا للواقع التشریعیّ (لما هو حقّ من التشریع)، بحیث یحقِّق المقتضی لبلوغ غایاته؛ وقد یکون لدینا قانون جدید، لکنَّه یکون ظالمـًا، ومجافیًا للمصالح الواقعیَّة والحقّة، ویوصل إلى خلاف غایاته التی وضع من أجلها، کالسعادة فی الاجتماع الأسریّ وقوانینه على سبیل المثال.
4- السیادة: وهی من المفاهیم التی استخدمت لتبریر هذا المشروع، حیث جاء فی السبب الرابع من الأسباب الموجبة لمشروع قانون الزواج المدنیّ ذاک؛ حیث قیل إنّ سیادة الدولة على قوانینها: "ما زالت ناقصة ومنتقصة فی مجال الأحوال الشخصیَّة داخلیًّا لقوانین للطوائف ومحاکم لها، وخارجیًّا لقوانین الدول التی یعقد فیها اللبنانیُّون أصولًا زواجًا مدنیًّا.."[11].
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى الآتی:
أ- إذا کان مجلس النوَّاب اللبنانیّ هو الذی شرّع -فیما یُعتمد من قوانین- اعتماد التشریع الإسلامیّ فی إطار الأحوال الشخصیَّة، فلا یؤدِّی ذلک إلى أیِّ انتقاص من هذه السیادة.
ب- إن کان عقد الزواج المدنیّ خارج لبنان طبقًا لقوانین الدول التی یُعقد فیها زواجه ذاک، یُعدّ انتهاکًا لسیادة الدولة؛ فلماذا یرتضی من یتبنّى الزواج المدنیّ أن یُمارس هذا الانتهاک للسیادة؟ أیْ لماذا لا یرفضون أن یسافر من یرید الزواج مدنیًّا إلى خارج لبنان لعقد زواجه، إذا کان ذلک یعدّ انتقاصًا من السیادة، فهل یبرِّر العقد المدنیّ انتقاص السیادة؟ وهل یصبح انتهاک السیادة جائزًا إذا تعارض مع الزواج المدنیّ؟ ولماذا لا یبادر أولئک إلى رفض عقد الزواج طبقًا لقوانین الدول الأخرى، بما أنَّ ذلک یؤدِّی إلى "انتقاص من حرِّیَّة القضاء اللبنانیّ ومن سیادته"[12]؟
فإجراء عقد الزواج طبقًا لما هو معتمد فی قوانین الدولة اللبنانیَّة -حتَّى لو کان قانونًا دینیًّا مخالفًا لقناعة أولئک- یحفظ السیادة اللبنانیَّة، بخلاف ما إذا تم إجراء عقد الزواج طبقًا لقوانین دول أخرى، بحیث لا یکون للدولة اللبنانیَّة "أیّ رأی فیها، لا من حیث التشریع، ولا التعدیل، ولا التطویر"[13].
ج- من الواضح أنَّ دعوى أنَّ مضمون الاتفاقیَّات الدولیَّة "یتمتَّع بفوقیَّة التطبیق"[14] ینافی السیادة الوطنیَّة، وکذلک قولهم إنَّ النصوص الدولیَّة "تتقدَّم على أحکام القانون اللبنانیّ"[15]، أو أنّ المحاکم المحلیَّة "تُلْزَمُ (....) بتطبیقها ]النصوص الدولیَّة[ بالأفضلیَّة على القانون اللبنانیّ (....)" [16].
وماذا یبقى من سیادة الدولة اللبنانیَّة إذا کانت للنصوص الدولیَّة الفوقیَّة، والتقدُّم، والأفضلیَّة؟ بل یمکن القول إنَّ ادعاء أنَّ لبنان مُلْزَمٌ بتطبیق تلک الاتفاقیَّات العالمیَّة التی وقَّع علیها، حتى لو کانت مخالفة لما علیه القانون اللبنانیّ یعدّ دعوةً لتخلّی الدولة اللبنانیَّة عن سیادتها الوطنیَّة، فلا شکَّ أنَّ للدولة اللبنانیَّة الحقّ فی إجراء ما یجب تعدیله، أو تغییر ما یجب تغییره، أو أن تعطی الأفضلیَّة والفوقیَّة لقوانینها المحلیّة، فکیف یرتضی هؤلاء کسر السیادة عندما یکون ذلک موافقًا لرغباتهم وقناعاتهم؟، وکیف یبرِّرون انتهاک السیادة عندما یتماشى ذلک مع طروحاتهم؟.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ السیادة الوطنیَّة کلٌّ لا یتجزَّأ، ولا یصحّ أن یُدّعى الحرص علیها فی موضع، وأن یتمّ انتهاکها فی موضع آخر؛ بل ینبغی أن تکون هذه السیادة من الثوابت التی لا یجوز تجاوزها، ولا التخلِّی عنها، کما إنَّه یجب عدم العمل بأیِّ مادَّة قانونیَّة فی القانون اللبنانیّ إذا تعارضت مع مبدأ السیادة الوطنیَّة؛ لأنَّ السیادة الوطنیَّة أولى وأهمّ من النصوص الدولیَّة، أو الموادّ القانونیَّة.
5- الإنسانیَّة: حیث ذُکر أنَّ هذا المشروع یتضمن -وبشکلٍ غیر مسبوق فی لبنان- إضافات إنسانیَّة جدیدة فی مجال الأحوال الشخصیَّة.
فقد ورد فی السبب الحادی عشر من الأسباب الموجِبة ما یلی: "حرص القانون المقترح، ولأوَّل مرَّة فی لبنان، على إیلاء العنایة بحقوق ذوی الحاجات الخاصَّة والمعوّقین، فی زواجهم وأحوالهم الشخصیّة: حیث لا موانع أمام الزواج، المساواة فی الحقوق، أولویَّة التسهیلات المکانیَّة، وسائل خاصَّة فی المحاکم، المساواة فی الإرث، وسیلة خاصة لإثبات قول الـ(نعم) لدى عقد الزواج لمن لیست لدیهم قدرة کافیة فی النطق أو السمع أو النظر مثلًا، إلخ"[17].
وهنا لا بدّ من إیراد هذه الملاحظات:
أ- لا موانع فی الفقه الإسلامیّ أمام زواج ذوی الحاجات الخاصَّة والمعوّقین، بل إنَّ أدلَّة الحثّ على الزواج وتسهیله تشملهم، کما تشمل غیرهم.
ب- لا اختلاف فی الحقوق بین ذوی الحاجات الخاصّة والمعوّقین وبین الأصحّاء، من حیث کون المتزوِّج ذا حاجة خاصّة أو صحیحًا.
ج- إنّ الفقه الإسلامیّ -والعادات الاجتماعیَّة التی ابتنت علیه- لا یُشترط فیها لإجراء العقد مکانًا خاصًا (المحکمة)، ولا زمانًا خاصًا (الدوام الرسمیّ)، ولا شخصًا خاصًّا (الموظَّف المختَّصّ)، وإنَّما هناک تحرُّر کامل من جمیع هذه القیود.
وهذا الأمر لیس بالجدید، وهو معمول به فی مجتمعاتنا. کلُّ ما فی الأمر أنَّ هذا العقد یحتاج بعد إجرائه إلى تثبیته فی المحکمة الشرعیّة.
د- لا اختلاف فی الإرث بین ذوی الاحتیاجات الخاصَّة والمعوَّقین، وبین الأصحّاء، إذ لا علاقة للإعاقة وعدمها بهذا الجانب.
ه- فی الوقت الذی یشترط الفقهاء فی عقد الزواج الإیجاب والقبول اللفظیَّین، فإنّهم اکتفوا فی الأخرس بالإشارة المفهمة لمراده؛ وذلک لعجزه عن الکلام[18].
کما یمکن للعاجز عن الکلام أن یوکِّل غیره بالإشارة المفهمة لمراده، (أو بالکتابة الدالّة على قصده) لإجراء العقد لفظیًّا بدلًا عنه.
یمکن أن یُکتفى بهذا المقدار من الملاحظات فی هذا الموضوع، للقول إنَّ ما یستفاد من ذلک النصّ وغیره، هو أنَّ مجمل من ینظِّر للزواج المدنیّ، أو یعمل على تدوین مشاریعه فی الأحوال الشخصیَّة، یفتقر إلى المعرفة الکافیة بالفقه الإسلامیّ وأحکامه (والقوانین الشرعیَّة المعتمدة)، فضلًا عن العادات الاجتماعیَّة التی قامت علیها، أو تأثَّرت بها.
ولعلَّ سبب حماسهم لتطبیق مثل هذه القوانین وموقفهم السلبیّ ممَّا یتعلَّق بالفقه الإسلامیِّ وأحکامه؛ یرجع إلى عدم معرفتهم بهذا الفقه بشکل کافٍ، وعدم اطلاعهم على غناه التشریعیِّ، ومنهجیَّة الاجتهاد فیه، حیث یتمیَّز التشریع الإسلامیّ بقدرته على التجدید والتطویر، ما یمکِّنه من تلبیة جمیع الاحتیاجات التشریعیَّة، والإجابة عن جمیع التساؤلات المطروحة.
وسوف أکتفی بهذا المقدار من البحث فی تلک المفاهیم، التی تمَّ العمل على توظیفها فی الأسباب الموجِبة لطرح ذاک المشروع. ولو أردنا أن نستوعب البحث فی مناقشة جمیع الأسباب الموجِبة، لاحتاج الأمر إلى تسطیر مئات الصفحات، لکنّنا فضَّلنا اختیار نماذج محدَّدة، قد تکون أکثر أهمِّیَّة فی تحقیق غرض هذا البحث، بحیث یتمّ تقدیمها نماذجَ لمجمل ما جاء فی الأسباب الموجِبة لذاک المشروع، وأمثلةً للمقاربة التی بُنی علیها المشروع، والتی تفتقد إلى العلمیَّة، والموضوعیَّة، والعمل العلمیّ الذی یتَّصف بالعمق؛ وتتَّسم فی المقابل بکثیرٍ من الدعائیَّة، وأسالیب الترویج، والانتقاص من الآخر، وتشویه ما لدیه.
ثانیًا: المقارنة الجزئیَّةلبعض موادّ المشروع بأحکام الشریعة الإسلامیَّة:
وسنقتصر فیه -کما ذکرنا- على جملة من تلک النماذج، التی سوف تُشکِّل أمثلةً لما علیه مجمل موادّ ذلک المشروع من مخالفةٍ لما جاء فی القرآن الکریم، وفی سنَّة النبی(ص) وأهل بیته(علیهم السلام)، مضافًا إلى مخالفتها لأحکام الشریعة الإسلامیَّة، والفقه الجعفریّ بشکل خاصّ. ولهذه الأحکام أبعاد اجتماعیَّة واضحة وواسعة، من حیث کونها عامَّة البلوى، وهذا یساعد على الدرایة بها، وتلمّس تلک التداعیات التی تترتّب على مخالفتها.
وعلیه سوف نعمل على اختیار العناوین الآتیة:
1- الزواج: وسوف نبحث هنا فی الموارد الآتیة:
أ- فی موانع الزواج: حیث نجد أنَّ هذا المشروع قد جعل التبنّی مانعًا من الزواج، مثله مثل القرابة الشرعیَّة وغیر الشرعیَّة، فقد جاء فی المادَّة العاشرة من ذلک المشروع ما نصُّه:"لا یصحُّ الزواج: 1- بین الأصول والفروع. 2- بین الأخوة والأخوات. 3- بین من تجمعهما قرابة أو مصاهرة دون الدرجة الرابعة. ولا فرق فی تطبیق هذه المادَّة بین القرابة الشرعیَّة، أو غیر الشرعیَّة، أو بالتبنّی"[19].
وسوف نقتصر فی مناقشة هذه المادَّة على موضوع التبنّی، حیث یکون للتبنّی تلک الآثار الشرعیَّة التی تترتّب على القرابة، وهذا مخالف لما جاء فی کتاب الله -تعالى-، فی قوله عزّ وجلّ: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُکُمْ فِی الدِّینِ﴾[20]، أی انسبوا هؤلاء الأولاد الى آبائهم، ولا تنسبوهم إلى أنفسکم. وهذا یعنی أنه لا تبنِّی فی الإسلام، بمعنى إنّه لا یصحُّ اعتبار أحدٍ ما ابنًا أو بنتًا، فلا تترتَّب أحکام القرابة ولا النسب ولا الآثار الشرعیَّة لهما؛ فإذا تبنّى أحدهم ولدًا ما وجعله ابنًا له، فهذا لا یجعل من هذا الولد ابنًا لذلک الشخص، من حیث ترتّب تلک الآثار الشرعیَّة، کحرمة الزواج من بنات ذلک الشخص المتبنّی مثلًا، بل یبقى هذا الولد ابنًا لأبویه الحقیقیَّیْن (ولیس الاعتباریَّیْن)، ولا یدخل فی المحارم، وبالتالی یجوز له أن یتزوَّج مثلًا من بنات ذلک الشخص دون مانع. هذا بالإضافة إلى أحکام النظر والإرث وغیر ذلک.
- کما ورد فی ذلک المشروع تحت عنوان موانع الزواج أنّ زواج الرجل من امرأة یمنع زواجه من أخرى، ویکون عقده على الثانیة باطلًا، حیث ورد فی المادَّة التاسعة ما نصّه: "لا یجوز عقد الزواج بین شخصین أحدهما مرتبط بزواج قائم، وإلَّا کان العقد باطلًا"[21].
وعلیه، فإنَّ هذا المشروع یبطل الزواج المتعدِّد للرجل من امرأة أخرى؛ وهذا مخالف لصریح القرآن الکریم، وسنَّة النبی وأهل بیته؛ فقد جاء فی القرآن الکریم: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِی الْیَتَامَى فَانْکِحُوا مَا طَابَ لَکُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾[22].
أما فی السنّة، فإنَّ بداهة المسألة ووضوحها تغنینا عن تکلّف الأمثلة والتوثیق فی هذا المجال.
ب- فی شروط الزواج: فقد أُهمل فی شروط الزواج إذن الأب فی زواج البنت البکر، حیث لم یأت ذلک المشروع على اشتراط إذنه فی الموادّ الثلاث التی بیّنت شروط الزواج. وهذا یعنی أنهم لا یشترطون إذن الأب فی زواج البنت البکر، أی إنهم یجوّزون فی مشروع القانون هذا أن تتزوَّج البنت دون إذن أبیها، تقلیدًا لما هو موجود فی الثقافة الغربیَّة وللقوانین المعمول بها فی تلک البلاد.
وهذا ما یخالف رأی جمعٍ من فقهاء مدرسة أهل البیت(علیهم السلام)، فی هذا المورد. وقد جاء عن الإمام الصادق (ع): "الجاریة البکر التی لها أب لا تتزوج إلّا بإذن أبیها"[23].
ج- سنّ الزواج: حدَّد المشروع سنَّ الزواج بثمانیة عشر عامًا، حیث جاء فی المادَّة الثامنة منه ما نصُّه: "لا ینعقد الزواج إلا برضى کلٍّ من الزوجین اللذین أتمّ کل منهما الثامنة عشرة من العمر"[24].
وهنا لا بدّ من طرح جملة من الأسئلة على هذه المادَّة فی مشروع القانون ذاک:
- ما هی المبرِّرات العلمیَّة التی اعتمدتم علیها لاختیار هذا السنّ بعینه کشرط للزواج؟ فلماذا لم یتمّ اختیار السابعة عشرة مثلًا، أو التاسعة عشرة، إلخ...؟
- الإقدام على الزواج یرتبط عقلائیًّا بالأهلیَّة له کشرط، ولا مدخلیَّة فیه للسنّ إلا من حیث کونه دالًّا على الأهلیَّة لا أکثر، وعلیه کیف أمکن لمشروعٍ یدّعی الاعتماد على العلوم ونتاجها أن یهمل شرط الأهلیَّة فی الزواج، وألَّا یتّخذه شرطًا أساسًا فی الإقدام على الزواج؟ وکیف صحّ ألَّا ینصّ هذا المشروع على شرط الأهلیَّة ذاک بشکل واضح وصریح؟
- الفارق بین اعتماد السنّ شرطًا للزواج مجرَّدًا عن الأهلیَّة، وبین اعتماد الأهلیَّة -بالإضافة إلى الشروط الأخرى المذکورة فی محلِّها-؛ أنّ اعتماد الأوَّل یؤدِّی إلى:
هذا، وسوف أکتفی بهذا المقدار فی هذا العنوان (سنّ الزواج) على الرَّغم منأهمِّیَّته وحاجته إلى بحث مستقلّ، قد یحتاج إلى کثیر من الوقت والجهد اللذان یمکن بذلهما فی أمورٍ أخرى لا تقل أهمِّیَّة.
د- فی إتمام عقد الزواج: وسوف نبحث هنا فی مسألتی اشتراط الشاهدَیْن فی عقد الزواج، وفی صیغة العقد.
- اشتراط الشاهدَیْن: فقد اشترط هذا المشروع حضور شاهدَیْن راشدَیْن لإتمام عقد الزواج، حیث جاء فی المادَّة (26)، ما نصُّه: "یتحقَّق الموظَّف المختّصُّ من رضى الفریقین المتبادل، بسؤال کلٍّ منهما تباعًا عمّا إذا کان یرید الآخر زوجًا له، وذلک بحضور شاهدَیْن راشدَیْن..»[25].
بل نصّ ذلک المشروع على أنَّ الزواج یکون باطلًا إذا لم یکن هناک توقیع من الشاهدَیْن. فقد نصَّت المادَّة رقم (39) على ما یلی: "یکون الزواج باطلًا: ... إذا انعقد الزواج من دون مراعاة الصیغ الجوهریَّة المفروضة قانونًا، ولا سیّما تلک المتعلقة بصلاحیَّة الموظَّف المختّصّ، وبالتحقُّق من الرضى، وبتوقیع الزوجین والشاهدین"[26]. وفی هذا مخالفة لما جاء فی القرآن الکریم بحسب تفسیر مدرسة أهل البیت(علیهم السلام) والروایات الواردة عنهم، حیث لا یُشترط الإشهاد فی عقد الزواج، ولیس شرطًا فی صحته. نعم یشترط الإشهاد فی الطلاق، ولا یکون صحیحًا إلا بشهادة شاهدَیْن عدلَیْن. وهذا ما نجده فی قوله -تعالى-: {یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّکُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخْرُجْنَ إِلَّا أَن یَأْتِینَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَیِّنَةٍ وَتِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِی لَعَلَّ اللَّهَ یُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِکَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَیْ عَدْلٍ مِّنکُمْ}[27]، حیث إنّ موضوع هذه الآیات القرآنیَّة هو الطلاق، وقد أمر الله -تعالى- بإشهاد ذوَی عدلٍ فی مورد الطلاق وبیان أحکامه، ولیس فی مورد الزواج. وهو ما یستفاد منه أنَّ الإشهاد شرط فی الطلاق، ولیس فی الزواج.
فقد ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام): "فی الرجل یتزوّج بغیر بیّنة؟ قال: لا بأس"[28].
- صیغة العقد: فلا یُفهم من مشروع القانون ذاک وجود صیغة للزواج تتضمَّن الإیجاب والقبول، بأن یکون الإیجاب من الزوجة، والقبول من الزوج، مضافًا إلى الشروط الواجب توافرها فی الصیغة بحسب ما جاء فی الشریعة الإسلامیَّة، وإنّما یفهم منه أنّ الموظَّف المختَّصّ یبادر إلى سؤال کلٍّ من الزوجین إذا کان یرید الآخر زوجًا له، لیأتی الجواب من کلٍّ منهما بالقبول بأنَّه یرید الآخر زوجًا له، وذلک من خلال الإجابة بـ"نعم" على السؤال الذی یطرحه المسؤول فی المحکمة على کلٍّ منهما.[29]
وقد ذکرنا ما جاء فی المادَّة رقم (26) من أنَّ الموظَّف المختَّصّ یسأل کلًّا من الزوجین، عمَّا إذا کان یرید الآخر زوجًا له، وأنّه: "(....) ینبغی أن یکون الجواب بالقبول صریحًا وغیر معلَّق على الشرط"[30].
أمّا المادَّة رقم (28)، فقد تضمّنت ما یلی: "یعتمد المِلَاک اللبنانیّ المستحدث للأحوال الشخصیَّة المدنیَّة نصًّا موحّدًا لقراءته أمام طالبی الزواج، ولطرح السؤال على کلٍّ منهما عمَّا إذا کان یرید الآخر زوجًا له (....) لتثبیت القول والقسم بالقبول بالزواج"[31].
فمن الواضح أنَّ النصَّ الذی یریدون اعتماده یتضمّن سؤال کلٍّ من الزوجین إذا کان یرید الآخر زوجًا له، أو یقبل به زوجًا له، وعلى کلا الطرفین أن یجیبا بـ"نعم" لتصحیح العقد، وهکذا فإنَّه لا یتضمَّن تلک الصیغة الخاصَّة التی وردت فی الشریعة الإسلامیَّة، والتی تقوم على الإیجاب والقبول بین الزوجین -حیث ینبغی أن تقول المرأة للرجل: زوّجتک نفسی على المهر (الفلانیّ)؛ فیقول الرجل: قبلت-، وتلک الکیفیَّة الواردة فی تلکما المادَّتین غیر کافیةٍ لحصول عقد الزواج بین الطرفین؛ لأنَّ التعبیر عن إرادة الزواج أو إبداء الرأی بالقبول به شیءٌ، وإجراء العقد وإنشاؤه شیءٌ آخر. فالمطلوب هنا إجراء العقد بإیجابٍ وقبولٍ من الزوجین واعتماد تلک الصیغة الخاصَّة به، والتی تعبّر عن إجراء العقد وإنشائه، ولیس المطلوب مجرّد التعبیر عن إرادة الآخر زوجًا له.
2- الطلاق والهجر: ویمکن أن نبحث هنا فی الموارد الآتیة:
أ- الهجر: إذ نجد أنّ هذا المشروع قد شرّع الهجر، حیث نصّت المادَّة رقم (45) على ما یأتی: "الهجر هو انفصال کلٍّ من الزوجین عن الآخر فی المسکن والمعیشة، مع بقاء الرابطة الزوجیَّة قائمة بینهما (....)"[32].
أمّا المادَّة رقم 46، فقد نصَّت على الآتی: "یحقّ لأیّ من الزوجین التقدّم إلى المحکمة المدنیَّة المختَّصّة بطلب الهجر"[33].
وهذا ینافی ما جاء فی کتاب الله -تعالى-، حیث قال- تعالى-: {فَإِمْسَاکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسَانٍ}[34]، ولا یوجد شیء ثالثٌ غیرهما.
أیْ إنّ العلاقة بین الزوجین إمَّا أن تکون بالمعاشرة بالمعروف، وبإعطاء کلٍّ من الطرفین للآخر حقوقه؛ وإمَّا أن یختارا الطلاق، الذی یُشترط فیه أن یکون بالإحسان والمعاملة بالحسنى، أمّا الهجر والانفصال فی المسکن والمعیشة، فهو لیس معاشرة بالمعروف، ولیس تسریحًا بإحسان.
وعلیه، لم تتضمّن مصادر الفقه الإسلامیّ ومراجعه عنوان الهجر، فضلًا عن تلک المواد المدرجة تحت هذا العنوان، وذلک لمنافاته لما جاء فی القرآن الکریم، وروایات أهل البیت(علیهم السلام) من وجوب التزام کلٍّ من الطرفین بواجباته، طالما کانت الزوجیَّة قائمة بینهما.
ب- الطلاق: حیث نجد أنّ هذا المشروع قد سلب صلاحیَّة الطلاق من الزوج، وجعله فی المحکمة. فقد جاء فی المادة رقم (55) ما یأتی: "لا یتمّ الطلاق إلا لدى المحکمة المدنیَّة المختّصّة"[35].
أمّا المادَّة رقم (58) فقد نصّت على الآتی:
"یجوز الطلاق بالتراضی بطلب معلّل لدى المحکمة المدنیَّة المختَّصّة، وبقرار تتَّخذه المحکمة (....)"[36].
وهذا مخالف لما جاء فی القرآن الکریم وروایات أهل البیت(علیهم السلام)، ولما علیه الفقه الإسلامیّ عامّة، حیث جعل الطلاق بید الزوج، کما جعل الله -تعالى- إیقاع الطلاق بید الرجل، وبیَّن أنَّ الزوجة هی من یقع علیها فعل الطلاق.
فقد قال -تعالى-: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْهِمَا أَن یَتَرَاجَعَا...}[37].
وقال -تعالى-: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ...}[38].
وقال -تعالى-: {یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...}[39].
وقال -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ...}[40]، أی إنّ الزوجة هی من یقع علیها فعل الطلاق، فلا یمکنها إیقاع الطلاق بنفسها.
وقد سُئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن المرأة تزوّجها رجل (....) وشرطت علیه أنّ بیدها الطلاق، فقال: "خالف السنّة، وولّى الحقّ من لیس أهله، وقضى (....) أنّ بیده (....) الطلاق، وتلک السنّة"[41].
ولا بدّ من الإشارة إلى أمرٍ آخر یرتبط بالطلاق، وهو أنّ هذا المشروع قد أهمل بعض الأحکام الخاصَّة، ومنها: أنَّه لو طلَّق الرجل زوجته ثلاث طلقات بشروطها، فهنا لا تحلّ له زوجته، حتَّى تتزوَّج غیره، وتُطلَّق وتعتدّ منه. ففی هذا الحال لهما أن یعودا، ویتزوّجا إن شاءا ذلک.
فإن کان المراد من إهمال هذا الحکم هو عدم تبنّیه -کما هو الظاهر-، فهذا مخالف لما جاء فی القرآن الکریم، وروایات أهل البیت(علیهم السلام)، حیث قال الله -تعالى-: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسَانٍ... فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنکِحَ زَوْجًا غَیْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْهِمَا أَن یَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن یُقِیمَا حُدُودَ اللّهِ...}[42].
وقد ورد فی حدیث الإمام الصادق(ع): "المطلّقة التطلیقة الثالثة لا تحلّ له، حتَّى تنکح زوجًا غیره..."[43].
ج- العدّة: فقد اختزل هذا المشروع جمیع ما یتَّصل بمسائل العدّة وأحکامها وفروعها بمادَّة واحدة، حیث نصّ على الآتی:
"یجوز للمرأة أن تتزوج من جدید بعد انقضاء فترة ثلاثة أشهر على إبطال الزواج أو انحلاله شرط ألا تکون حاملًا، أو إذا رُخّص لها بالزواج بقرار معلّل تتَّخذه المحکمة المدنیَّة فی غرفة المذاکرة"[44].
وتتضمّن هذه المادَّة مخالفات عدیدة لما جاء فی کتاب الله -تعالى- وروایات أهل البیت(علیهم السلام)، نذکر منها الموارد الآتیة:
- عدّة المتوفَّى عنها زوجها: فقد جعلتها هذه المادَّة ثلاثة أشهر، أما القرآن، فقد نصَّ بوضوح على أنَّ عدَّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أیام، حیث قال -تعالى-: {وَالَّذِینَ یُتَوَفَّوْنَ مِنکُمْ وَیَذَرُونَ أَزْوَاجًا یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[45]، ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّه إذا کانت حاملًا، فعدّتها أبعد الأجلین؛ فإن وضعت حملها، وکان قد مضى أربعة أشهر وعشرة أیام فقد أکملت عدّتها، وإلّا انتظرت حتَّى تکمل تلک المدَّة، حیث جاء فی الحدیث عن الإمام الصادق(ع): "الحامل المتوفّى عنها زوجها تنقضی عدّتها آخر الأجلین"[46].
- عدّة المدخول بها غیر الحامل: قد جعلتها هذه المادَّة ثلاثة أشهر أیضًا، فی حین إنّ القرآن الکریم حدّدها بـ: ثلاثة قروء، أی ثلاثة أطهار[47]، وذلک وفق فتوى علماء مدرسة أهل البیت(علیهم السلام)، حیث فسّروا القرء بالطهر الواقع بین حیضتین، والمدَّة التی تستغرقها القروء الثلاثة قد تختلف عن ثلاثة أشهر، فقد تکون أکثر من ثلاثة أشهر، وقد تکون أقلّ من ذلک، وعلى کلِّ حال فإنَّ العبرة بالأطهار الثلاثة، ولیس بالأشهر الثلاثة.
- عدّة المطلّقة الحامل: حیث نجد أنَّ هذه المادَّة قد أهملت بیان عدَّة المطلَّقة الحامل-بل أهمل ذلک المشروع بکامله-، إلا إذا کان المراد إدراج هذه الحالة فی العبارة الأخیرة، التی أعطت المحکمة المدنیَّة صلاحیَّة الترخیص بالزواج. وفی هذا الخصوص لا بدّ من المناقشة فی موردین:
ومن هنا جاءت فتاوى الفقهاء تعبیرًا عمَّا ورد فی تلک النصوص الدینیَّة، حیث ذکروا بأنَّ "المطلَّقة الحامل (....) عدّتها مدّة حملها (....) وتنقضی بأن تضع حملها ولو بعد الطلاق بساعة"[50].
وبناءً علیه فإذا کان المراد من إهمال عدَّة المطلَّقة الحامل هو إدراجها فی تلک الصلاحیَّة التی یعطیها المشروع للمحکمة، بما یمکن أن یؤدِّی إلى مخالفة ذلک الأجل المنصوص علیه فی کتاب الله -تعالى- وروایات أهل البیت(علیهم السلام)؛ فهذا واضح بطلانه، ویکون شاهدًا إضافیًّا على ذلک الاختلاف الفاحش بین ما جاء فی هذا المشروع -أو فی غیره من المشاریع- وبین أحکام الشریعة الإسلامیَّة ومصادرها التشریعیَّة؛ أی القرآن الکریم وسنّة النبی(ص) وأهل البیت(علیهم السلام).
وهل هذه الصلاحیَّة حاکمة على جمیع أقسام العدّة ومسائلها (عدّة المتوفّى عنها زوجها، عدّة المدخول بها غیر الحامل...)، بحیث إنّ جمیع هذه الأقسام یمکن أن تکون خاضعة لذاک الترخیص، الذی قد یقصِّر المدَّة وفق ما تراه المحکمة؟ وبالتالی قد تکون عدّة امرأة شهرًا، وأخرى شهرًا ونصف، وثالثة شهرین، وغیرهن أسبوعین، أو ثلاثة،...، والسبب هو تلک الصلاحیَّة المعطاة لتلک المحکمة، والتی قد ترخّص لامرأة أن تتزوَّج من جدید بعد مدّة تحدّدها تلک المحکمة، وقد تختلف هذه المدّة بین امرأة وأخرى.
وقد یؤدِّی تطبیق مثل هذا المشروع إلى نوع من التفلُّت فی تحدید العِدد، بل إلى نوع من فوضى العِدد، هذا عدا عن مخالفته الواضحة لکتاب الله -تعالى-، وسنّة النبیّ(ص) وأهل بیته(علیهم السلام).
وتکتسب هذه المسألة حسَّاسیَّة خاصّة من الناحیة الشرعیَّة، فلو فرضنا أنَّ مطلَّقة رجعیَّة رُخِّص لها بالزواج قبل أن تستکمل عدّتها الشرعیَّة طبقًا لما جاء فی الشریعة الإسلامیَّة وأحکامها؛ فهنا لن یکون زواجها الجدید صحیحًا، بل سوف یکون زواجًا باطلًا، ولن تکون علاقتها بالزوج الجدید علاقة شرعیَّة، بل سوف تکون علاقة غیر شرعیَّة، مع ما یؤدِّی إلیه هذا الوضع من سلبیَّات على أکثر من مستوى.
وهذا یعنی أنّ هذه المادَّة سوف تؤسِّس لعلاقات غیر شرعیَّة بحسب الفقه الإسلامیّ، ولهذا الأمر نتائج خطیرة جدًا على المستویین الدینیّ والاجتماعیّ.
فهل یدرک واضعو مشروع القانون -ذاک- أنّ هذه المادَّة یمکن أن تؤدِّی إلى نوع من عدم الانضباط والتفلّت فی مدَّة العِدَّة؛ ولا شکَّ أنه ستکون لمثل هذا التفلُّت نتائجه وتداعیاته الخطیرة، وتکمن خطورة تلک النتائج والتداعیات اجتماعیًّا، ودینیًّا، ونفسیًّا...، فی أنَّها تفتح الباب أمام إقامة علاقات غیر شرعیَّة، وولادة أولاد غیر شرعیِّین بحسب الفقه الإسلامیّ.
وهذا یدعونا إلى التنبّه إلى خطورة ما تنطوی علیه تلک المشاریع، وإلى الحذر من حجم الأضرار والمخاطر التی تنجم عنها، وإلى عدم الاغترار بکلِّ ذلک الضجیج الإعلامیّ الذی یعمل على الترویج لتلک الأفکار والطروحات، فلا بدّ من الانتباه والحذر من تلک المشاریع حتى لو غلّفت بأرقى المصطلحات، وأسمى اللغات والأسالیب.
خاتمة:
إنَّ ما تنطوی علیه هذه المشاریع من مغالطات ومخالفات واضحة وصریحة لأحکام الدین الإسلامیّ، یفرض علینا رفض مثل هذه المشاریع بعیدًا عن المداهنة والاستثمار الإعلامیّ، والعمل على تنبیه عموم الناس، والشباب، والنخب، کما ینبغی التنبیه من مخاطر تلک الطروحات، والمشاریع، وسلبیَّاتها على الإنسان، والأسرة، والمجتمع، وما بقی لنا من عناصر قوَّة فی مجتمعاتنا وأوطاننا.
نعم، لا بدّ من القول إنّ ثمّة أسبابًا موجِبة للاستفادة من القیم الأخلاقیَّة والأسریَّة فی ثقافتنا الدینیَّة الأصیلة والصحیحة بشکل أفضل، والتی أثبتت قدرتها على بناء علاقات أسریَّة وزوجیَّة صحیحة وسلیمة فی حال تمّ العمل بها والاستفادة منها.
وتوجد أسباب موجِبة لإصلاح العدید من المشاکل والعیوب التی تعانی منها حیاتنا الأسریَّة والزوجیَّة والاجتماعیَّة، ولیس من المنصف تحمیلها للدین وتشریعه، وخصوصًا فی ما یرتبط منها بموضوع بحثنا، أی الفقه الإسلامیّ ومصادر تشریعه.
وتوجد أسباب موجِبة لتفعیل منهجیَّة الاجتهاد أیضًا، وذلک فی سبیل إعادة النظر فی أیّ نتاج فقهیّ، وذلک ضمن ضوابط تلک المنهجیَّة وشروطها، وخصوصًا فی مجال فقه الأحوال الشخصیَّة ومسائله، وما یطرح فیه من إشکالیَّات وأسئلة، بمعزل عن النتیجة التی یمکن أن تؤدّی إلیها إعادة النظر فی مسائل ذاک الفقه، أو فی ما یرتبط بتجدید البحث فی مجمل قضایاه المطروحة.
کما لا یصحّ أن یرافع أو یدافع عن أیّة تجربة دینیَّة تنطوی على تفسیرٍ ما للدّین، ولبعض نصوصه وتطبیقاته؛ إذا ما تبیّن فشلها بالدلیل القطعیّ والعلمیّ، أو إذا کانت تتضمَّن بعض العیوب والثغرات. کما لا یصحّ فی المقابل اتّخاذ ذلک ذریعة لاستجرار أطروحات غریبة وغربیَّة تهدف إلى إقصاء الدّین، وعزله عن ساحة الاجتماع العام وشؤونه ذات الصلة.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من لبنان.
[2] المشروع الذی أعدّته د.أوغاریت یونان، ود.ولید صلیبی، والذی تمَّ تقدیمه إلى مجلس النوَّاب اللبنانی (بیروت، 18/3/2011). وکان المشروع قد أُعدَّ سنة 2009م، قبل أن تُقدِّمَه جمعیَّة "شمل" بواسطة النائب مروان فارس إلى مجلس النوَّاب اللبنانیّ سنة 2011م، حیث أُحیل منذ ذلک التاریخ على أعمال اللجان النیابیَّة المشترکة ولم یُبَتّ (انظر: حبیش، هدى: >شمل تعود... إلى قانون العائلة العثمانیّ<، المدن (جریدة إلکترونیَّة مستقلَّة)، رئیس التحریر: سالم نور الدین، www.almodon.com، تاریخ النشر: الأربعاء 27/1/2016، تاریخ الاسترداد: الخمیس: 2/3/2017؛ شعیا، منال: >الزواج المدنیّ: کیف تمَّت الإساءة إلى الأحوال الشخصیَّة فی لبنان<، موقع النهار الإلکترونیّ، www.alnahar.com، تاریخ النشر: السبت 21/3/2015، تاریخ الاسترداد: الخمیس: 2/3/2017).
هذا وقد اخترناه نموذجًا لمشاریع الزواج المدنیّ. ویبدو أنَّ کاتبَیه قد حاولا تجنّب حدّة بعض المخالفات لأحکام الدین الإسلامیّ التی اشتملت علیها مشاریع أخرى؛ لأنَّه جاء متأخِّراً عن بقیَّة المشاریع المطروحة، حیث ذکر کاتباه أنَّه أکثر تطوُّراً، وأنَّهما استفادا من اقتراحات ومشاریع سابقة فی هذا السیاق. وللاطلاع على النصّ الکامل لهذا المشروع، انظر: محسن، أحمد: >الأحوال الشخصیَّة عودة إلى الدولة<، جریدة الأخبار اللبنانیَّة، السنة5، العدد 1413،الثلاثاء 17 آیار2011، ص8-9؛ وانظر المشروع الکامل -أیضًا-فی: >مشروع قانون لبنانیّ للأحوال الشخصیَّة<، بوابة لبنان للتنمیة والمعرفة، lkdg.org/ar/node/5230، تاریخ النشر: الثلاثاء: 17/5/2011، تاریخ الاسترداد: الخمیس: 2/3/2017 .
[3] مشروع الزواج المدنیّ، م.س، الأسباب الموجبة، ص5.
[4] م.ن، الأسباب الموجبة، ص5.
[5] مشروع الزواج المدنیّ، م.س، ص2.
[6] م.ن، ص3.
[7] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، ص3.
[8] م.ن، ص3.
[9] مشروع قانون الزواج المدنیّ، ص6.
[10] م.ن، ص6.
[11] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، ص3.
[12] م.ن، ص3.
[13] م.ن، ص3.
[14] م.ن، ص5.
[15] م.ن، ص5.
[16] م.ن، ص5.
[17] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، الأسباب الموجبة، ص7.
[18] الشهید الثانی، محمَّد بن مکی: الروضة البهیّة فی شرح اللمعة الدمشقیّة، ط2، بیروت، دار إحیاء التراث العربیّ، 1983م، ج5، ص112.
[19] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 10، ص8؛ کما یُنظر إلى تعریف التبنِّی وأحکامه فی هذا المشروع، المادَّة 101.
[20] سورة الأحزاب، الآیة 5.
[21]مشروع قانون الزواج المدنی، م.س، المادَّة 9، ص8.
[22] سورة النساء، الآیة 3.
[23] الحرّ العاملیّ، محمَّد بن الحسن: وسائل الشیعة، ط2، قم المقدَّسة، مؤسَّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414هـ.ق، ج20، کتاب النکاح، باب أنَّه لا ولایة لأحد من أخ ولا أب ولا غیرهما على الثیِّب البالغ الرشیدة بل أمرها بیدها، ح7، ص270.
[24] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 8، ص8.
[25] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 26، ص10.
[26] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 39، ص12.
[27] سورة الطلاق، الآیتان 1-2.
[28] الحرّ العاملیّ، وسائل الشیعة، م.س، ج20، کتاب النکاح، باب جواز التزویج بغیر بیِّنة فی الدائم والمنقطع واستحباب الإشهاد والإعلان، ح4، ص98.
[29] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، ص7.
[30] م.ن، المادَّة 26، ص10.
[31] م.ن، المادَّة 28، ص10.
[32] مشروع فانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 45، ص12.
[33] م.ن، المادَّة 46، ص12.
[34] سورة البقرة، الآیة 229.
[35] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 55، ص13.
[36] م.ن، المادَّة 58، ص14.
[37] سورة البقرة، الآیة 230.
[38] سورة البقرة، الآیة 231.
[39] سورة الطلاق، الآیة1.
[40] سورة البقرة، الآیة 228.
[41] الکلینیّ، محمَّد بن یعقوب: الکافی، ط3، طهران، دار الکتب الإسلامیَّة، 1367 هـ.ش، ج5، کتاب النکاح، باب الشرط فی النکاح وما یجوز منه وما لا یجوز، ح7، ص403.
[42] سورة البقرة، الآیتان 229-230.
[43] الحرّ العاملیّ، وسائل الشیعة، م.س، ج22، کتاب الطلاق، باب أنَّ من طَّق زوجته ثلاثًا للسنَّة حرمت علیه، ح10، ص114.
[44] مشروع قانون الزواج المدنیّ، م.س، المادَّة 75، ص16.
[45] سورة البقرة، الآیة 234.
[46] الحرّ العاملیّ، وسائل الشیعة، م.س، ج22، کتاب الطلاق، باب أنَّ عدَّة الحامل من الوفاة أبعد الأجلین من الوضع وأربعة أشهر وعشر، ح1، ص240.
[47] هذا فی المرأة التی تکون فی سنّ من تحیض، وترى الحیض بشروطه الشرعیَّة؛ أمَّا التی تکون فی سنِّ من تحیض، وهی لا تحیض لخلقة أو لعارض (والتی یسمِّیها الفقهاء: المسترابة)؛ فینطبق علیها قوله -تعالى-: {وَاللَّائِی یَئِسْنَ مِنَ الْمَحِیضِ مِن نِّسَائِکُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (سورة الطلاق، الآیة 3)، أی إنّ الثلاثة أشهر هی عدّة المسترابة التی تکون فی سنّ من تحیض، وهی لا تحیض. أمّا التی تکون فی سنّ من تحیض، وهی تحیض، فعدّتها القروء الثلاثة.
[48] سورة الطلاق، الآیة 3.
[49] الحرّ العاملیّ، وسائل الشیعة، م.س، ج22، کتاب الطلاق، باب أنَّه یجوز طلاق الحامل ثانیًا وثالثًا للعدَّة لا للسنَّة ما دامت حاملًا وتحرم فی الثالثة حتَّى تنکح زوجًا غیره، ح1، ص146.
[50] السیستانی، علی: منهاج الصالحین، ط14، بیروت، دار المؤرِّخ العربیّ، 2008م، ج3، المسألة 551، ص169.