نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
جامعة
المستخلص
نقاط رئيسية
أولاً: مفهوم التداخلیّة فی العلوم الإسلامیَّة
ثانیاً: المرجعیَّة فی تداخلیَّة العلوم الإسلامیَّة
ثالثاً: علم أصول الفقه: الهویَّة والدلالة
رابعاً: المنهج فی علم أصول الفقه
خامساً: علم أصول الفقه وعلاقته بعلم الفقه
سادساً: امتدادات العلوم وتداخلها فی علم أصول الفقه
الكلمات الرئيسية
علم أصول الفقه فی سیاق التطویر -قراءة فی مفاعیل التداخلیّة بین أصول الفقه والعلوم الإسلامیّة -
الدکتور محمد بنعمر[1]
خلاصة:
من الظواهر الثقافیّة والفکریّة التی تستوقف الدارس والباحث، والمتابع والقارئ لمسار التراث العربیّ الإسلامیّ، فی تطوّره التاریخیّ، هو ذلک التداخل القائم بین العلوم التی نشأت فی أحضان هذا التراث، وتطوّرت فیه، حیث إنّ العلاقة التداخلیّة، والتکاملیّة، کانت هی السمة البارزة، والغالبة، والمهیمنة، والحاضرة بین جمیع العلوم التی نشأت فی أحضان الثقافة العربیّة الإسلامیّة.
ویُعدّ النصّ الدینی المرجعیّة الأساس التی ساهمت فی هذه التداخلیة القائمة بین العلوم الإسلامیّة، حیث نشأت حوله شبکة متکاملة، ومتداخلة من العلوم. وأغلب هذه العلوم بقسمیها اللغویّ والشرعیّ، اختارت الوجهة التفسیریّة البیانیّة للنصّ الدینیّ.
ومن بین هذه العلوم علم أصول الفقه الذی یُعدّ ملتقى مجموعة من العلوم العقلیّة والنقلیّة؛ منها: علم الفقه، علوم اللغة، علم المنطق، وعلم فقه الواقع... حیث شکّل منهجاً فی الاستدلال الجامع بین العقل والنقل، مستمدّاً مکوّناته ومرجعیّاته من مجموعة من العلوم التی تشارکه فی الموضوعوالمنهج، وتتداخل معه فی المفاهیم.
ومن هذا المنطلق تعالج هذه المقالة مفهوم التداخلیّة بین العلوم، والوقوف عند خصوص العلاقة التی تربط علم أصول الفقه بالعلوم الأخرى، ومحاولة تقدیم مقاربة تطویریّة تجدیدیّة لهذا العلم بلحاظ منهجه ومسائله وأدواته؛ بالاستفادة من العلوم الأخرى التی تربطه بها علاقة التداخلیّة والتکاملیّة بمحوریّة النصّ الشرعیّ.
مصطلحات مفتاحیّة:
أصول الفقه، العلوم الإسلامیّة، اللغة، المنطق، فقه الواقع، تداخل العلوم، تکامل العلوم، محوریّة النصّ الشرعیّ، المنهج...
مقدّمة:
کشف کثیر من العلماء والباحثین فی علوم التراث العربیّ الإسلامیّ عن وجود علاقة تداخلیّة وتکاملیّة قائمة بین العلوم الإسلامیّة، وذلک فی سیاق بحثهم فی موضوع تصنیف العلوم، وترتیبها من حیث الحاجة، والفائدة، والمشروعیّة والمنفعة التی تؤدّیها أو تقدّمها تلک العلوم للإنسان فی دنیاه، أو فی آخرته، أو من حیث بیانهم لمکانة العلم، وقیمة طلبه فی الإسلام؛ وذلک عن طریق الفصل والتمییز بین العلوم المقصودة لذاتها، والعلوم المقصودة لغیرها، وهی العلوم التی تنعت بعلوم الآلة، أو العلوم الآلیّة[2]؛ لأنّها -فی حقیقتها وفی أصلها- آلة لغیرها من العلوم؛ مثل: النحو لعلوم الشریعة، والمنطق لعلم أصول الفقه، وأصول التفسیر لعلم التفسیر...[3]
تبعاً لهذا الإشکال المحوریّ، فقد استند مناصرو هذه التداخلیة القائمة بین العلوم الإسلامیّة، فی تعزیز دعواهم ومناصرة موقفهم، إلى هذا النصّ الموجود فی مقدّمة ابن خلدون، بخاصّة فی الفصل المخصّص لتصنیف العلوم وتطوّرها فی الإسلام، حیث یذکر ابن خلدون (ت: 808هـ.ق.) فی کتابه "المقدّمة": "أنّ من العلوم ما هو مقصود لذاته؛ کالشرعیّات والإلهیّات... ومن العلوم ما هو مقصود لغیره؛ مثل: علوم الآلة: کاللغة العربیة للشرعیّات، وعلم المنطق لعلم أصول الفقه..."[4].
وهذه العلوم الخادمة للعلوم الأصلیّة غالباً لا تراد لذاتها؛ وإنّما فائدتها وثمرتها تتحدّد فی ما تسدّده من خدمات، وما تقدّمه من منافع للعلوم الأصلیّة، وهی العلوم المقصودة بالذات، ومن ثمّ "فکلّما خرجت هذه العلوم -المقصودة لغیرها- عن هذا القصد صار الاشتغال بها لغواً..."[5].
ومن الأمثلة التی یقدّمها ابن خلدون (ت: 808هـ.ق.) لبیان فساد هذه العلوم التی اختارت استبدال أدوارها ووظائفها: علم المنطق مع المتأخّرین، حیث دبّ إلیه الفساد، ودخله الخلل عندما خرج عن المقصود الذی من أجله وضع فی بادئ أمره...
قال فی المقدّمة: "أمّا العلوم التی هی مقاصد، فلا حرج فی توسعة الکلام فیها، وتفریع المسائل واستکشاف الأدلّة والأنظار؛ فإنّ ذلک یزید طالبها تمکّناً من ملکته، وإیضاحاً لمعانیه المقصودة، وأمّا العلوم التی هی آلة لغیرها -مثل: العربیّة والمنطق وأمثالها- فلا ینبغی أن یُنظَر فیها -من حیث کونها آلة لغیرها فقط- ولا یوسّع فیها الکلام، ولا تفرّع المسائل؛ لأنّ ذلک مخرج لها عن المقصود، إذ المقصود منها کونها آلة له لا غیر، فکلّما خرجت عن ذلک خرجت عن المقصود، وصار الاشتغال بها لغواً (...) وهذا ما فعله المتأخّرون فی صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه؛ لأنّهم أوسعوا دائرة الکلام فیها، وأکثروا من التفریعات والاستدلالات بما أخرجها من کونها آلة، وصیّرها من المقاصد..."[6].
وقد اختار ابن رشد الحفید (ت: 595هـ.ق.) قبل ابن خلدون التقسیم والتصنیف والترتیب نفسه؛ إذ قسّم العلوم إلى علوم مقصودة بذاتها، وعلوم مسدِّدة، ویراد بالمسدِّدة تلک العلوم الخادمة لغیرها، حیث قال فی کتابه "الضروریّ فی صناعة النحو": "إنّ العلوم صنفان: علوم مقصودة لنفسها، وعلوم مسدّدة للإنسان فی تعلّم العلوم المقصودة فی نفسها..."[7].
ومن العلوم المسدِّدة علم النحو وعلم المنطق، "فمنزلة النحو کمنزلة المنطق؛ علمان مسدِّدان، إلا أنّ الأوّل یسدِّد اللسان، والثانی یسدّد العقل والفکر حتى لا یقع غلط فیهما..."[8].
وهذا یعنی أنّ فهم المعرفة الإسلامیّة فی أوصافها ومرجعیّاتها لا یتمّ إلا بترکیب علومها ترکیباً متکاملاً بین أجزائها. وهذا من أحد تجلّیات النظرة التکاملیّة الممیّزة والحاضرة فی المعرفة الإسلامیّة[9].
أولاً: مفهوم التداخلیّة فی العلوم الإسلامیّة:
تعنی التداخلیّة القائمة بین علوم التراث عند کثیر من الدارسین والباحثین فی التراث العربیّ الإسلامیّ: "أن العلوم کانت متکاملة، فهی لا تقبل التفرقة بین أجزائها، وإنّها هی وحدة مستقلّة، فهی لا تقبل التبعیّة لغیرها..."[10].
فـ"العلوم الإسلامیة نشأت جمیعاً لخدمة هذا الهدف العامّ، وهو خدمة النصّ القرآنی، وفهمه، وللوقوف على المعانی المحمولة فیه، کلّ علم حسب تخصّصه ووجهته وموضوعه، ما جعل العلوم على اختلافها غیر منعزلة عن بعضها؛ بل متقاربة ومتداخلة..."[11].
ثانیاً: المرجعیّة فی تداخلیّة العلوم الإسلامیّة:
إنّ المرجعیّة التی ساهمت فی هذه التداخلیة القائمة بین العلوم الإسلامیّة، هی النصّ القرآنیّ المؤسِّس لهذه العلوم، حیث تمخّض عن مرکزیّة النصّ القرآنیّ ومحوریّته فی الثقافة العربیّة الإسلامیّة، فنشأت شبکة متکاملة ومتداخلة من العلوم؛ من فقه وأصول، وحدیث وسُنّة، وتفسیر وقراءات، وغیرها من العلوم الشرعیّة، أو من العلوم اللغویّة؛ من نحو، وصرف، وتصریف، ومعجم، وفقه، ولغة، وبلاغة، ودلالة... لخدمة هذا النصّ المؤسِّس فی جمیع جهاته ومستویاته -حیث کان النصّ الشرعیّ هو المحور فی تلاقی العلوم التی ظهرت فی الإسلام وتطوّرت فی أحضانه. وأغلب هذه العلوم -بقسمیها اللغویّ والشرعیّ- اختارت الوجهة التفسیریّة البیانیّة للنصّ الشرعیّ.
یلاحظ الناظر فی أشکال الثقافة العربیّة الإسلامیّة -بما لا مجال للشکّ فیه- أنّ العلوم الإسلامیّة لغویّة أو شرعیّة -على الرغم من التفاوت بینها، ومن اختلاف فی التناول والأداء، أو فی عرض الظواهر الفکریّة، أو فی بسط القضایا العلمیّة، أو فی تحدید المرجع المنهجیّ- جعلت من النصّ القرآنیّ منطلق اشتغالها، ومحطّ اهتمامها، ومرجع عنایتها، ومحور دراستها؛ من أجل تمثّل القضایا التشریعیّة الکبرى التی طرحها الواقع الإسلامیّ وعرفها فی مساره التاریخیّ الطویل، خاصّة فی احتکاکه مع الثقافات والحضارات الأخرى الوافدة علیه.
وکما قال ابن جزی الکلبیّ (ت: 741هـ.ق.) فی مقدّمة کتابه "التسهیل"، فالقرآن الکریم "هو المقصود بنفسه، وسائر العلوم أدوات تعین علیه وتتعلّق به"[12].
ثالثاً: علم أصول الفقه: الهویَّة والدلالة:
حیث تداخل فی ترکیب هذا العلم مجموعة من الأشکال والأنساق المعرفیّة والعلمیّة؛ فعلم أصول الفقه یکاد یکون مزیجاً وخلیطاً بین مجموعة من العلوم التی تشارکه فی الموضوع، وتتداخل معه فی المنهج، فهو أحد العلوم المنهجیّة العریقة فی الثقافة العربیّة الإسلامیّة.
کما تسلّلت إلى علم أصول الفقه العلوم الدخیلة الوافدة من الثقافات الأخرى؛ مثل: علم المنطق؛ "ذلک أنّ علم أصول الفقه -الذی یظهر بمظهر نسق من العلوم- لم تدخل فیه شُعَب العلوم الإسلامیّة وحدها؛ بل دخلت فیه -أیضاً- العلوم العقلیّة المنقولة من الثقافات والحضارات الأخرى، والتی لها قرابة معرفیّة أو منهجیّة معه"[14].
وهو الاعتبار الذی جعل من هذا العلم أنموذج النظر المنطقیّ المتکامل فی التراث العربیّ الإسلامیّ.
رابعاً: المنهج فی علم أصول الفقه:
شکّل هذا العلم ملتقى مجموعة من العلوم؛ منها ما هو نقلیّ أو عقلیّ، ومنها ما هو أصلیّ أو تَبَعِیّ؛ دخیل خادم للأصل، ومنها ما هو مقصود بالذات أو مقصود للغیر[15].
فعلم أصول الفقه عبارة عن قواعد منهجیّة کلّیّة استدلالیّة، تعمل على ضبط منهج الفهم، وتسدید الاستنباط فی المجال التشریعیّ؛ فهو منهج فی الاستدلال جامع بین النقل والعقل، وبین الرأی والنصّ، حیث یستمدّ مکوّناته ومرجعیّاته من مجموعة من العلوم التی تشارکه الموضوع، وتقاسمه المنهج، وتتداخل معه فی المفاهیم، فإذا أحکم المجتهد والمستدلّ قواعد هذا العلم، تیسّر له الوصول إلى الفهم السدید لنصوص الوحی، فهو یُعدّ -بحقّ- من أهمّ العلوم التی أنتجتها الحضارة العربیّة الإسلامیّة[16].
وهذا المعطى هو الذی یکشف لنا الباعث والداعی على تسمیة هذا العلم بالمنهجیّة التشریعیّة[17]؛ لأنّ علم أصول الفقه فی بنائه الداخلی هو مجموعة من القواعد الکلّیّة، والأصول الإجمالیّة، یستند إلیها الفقیه والمجتهد فی تفهّمه للنصّ الشرعیّ من أجل استنباط الحکم الشرعیّ منه، وتنزیل هذا الحکم على أفعال المکلّف وتصرّفاته؛ تبعاً للحال الذی یوجد فیه هذا المکلّف[18].
لقد عبّر هذا العلم وجسّد المستوى الکبیر فی اشتغال العقلیة الإسلامیّة فی صناعة المعرفة، وبیان طرائق الوصول إلیها، وإیضاح مسائلها، من خلال استشکالها للقضایا التشریعیّة العمیقة التی عرفها المجتمع الإسلامیّ فی تطوّره التاریخیّ، حیث أضحت القضایا والمباحث والإشکالیّات الکبرى، التی استحضرها علماء الأصول وأثاروها فی ثنایا مؤلّفاتهم، غیر متیسّرةٍ للباحثین الیوم[19].
لذا، یُعدّ علم أصول الفقه منهجاً دقیقاً ومسلکاً متماسکاً؛ فهو "منهج لا یعادله منهج آخر، فی دقّته، وفی تماسکه، وفی مرونته، وقدرته على الخوض فی مختلف موضوعات الشریعة، والوصول فیه إلى حلول اجتماعیّة إنسانیّة لهذه القضایا التشریعیّة"[20].
خامساً: علم أصول الفقه وعلاقته بعلم الفقه:
إنّ علاقة هذا العلم بعلم الفقه هی علاقة تلازمیّة، یمکن تشبیهها بعلاقة النظریّة بالتطبیق، فعلم أصول الفقه یمارس وضع النظریّات العامّة للاستنباط، ویعمل على عصمة المستدلّ من الزلل فی الاستدلال، وبالتالی لا مکان فی هذا العلم للقول بدون دلیل؛ فلا یقول من شاء ما شاء، وإنّما تردّ الفروع إلى أصولها، وتردّ الأصول إلى مصادرها الأصلیّة المعلومة.
ویسعى علم الفقه إلى توجیه تلک النظریّات، وتسدید تلک الأنساق؛ وذلک بتنزیل هذه الأنساق وتطبیقها على أرض الواقع، وهذا یُعدّ أحد تجلّیات التلاحم والتداخل الذی کان حاضراً وقائماً بین العلوم عامّة، وبین علم الفقه وعلم الأصول خاصّة[21].
سادساً: امتدادات العلوم وتداخلها فی علم أصول الفقه:
1. الاعتبارات العلمیّة والمنهجیّة فی حضور اللغة عند الأصولیّین:
من أبرز المحاور العلمیّة المشکّلة لهذا العلم هو المحور اللغویّ البیانیّ؛ حیث إنّ الاستدلال على الأحکام، وتمثّل المعنى اللغویّ والشرعیّ من النصّ، یتوقّف على مدى ضبط اللغة العربیّة، والتمکّن من علومها، والدرایة بمنطقها فی التخاطب، سواء أکانت هذه العلوم متّصلة بالترکیب أم بالدلالة أم بالمعجم، أم بالسیاق الذی یراد به عند الأصولیین المقتضیات المحیطة بالخطاب، والتی لها الأثر المباشر فی صناعة المعنى.
فبحکم عربیة هذه الشریعة، وبحکم نزولها وفق مقاصد العرب فی مجاری خطابها وعاداتهم فی تصریف أسالیبها؛ فإنّ من الواجب على مَنْ قصد الاستدلال، أو رام استنباط الأحکام من النصّ، أن یکون على علم ومعرفة باللغة العربیّة، عارفاً بقواعدها، مدرکاً لمعهودها فی الخطاب والتخاطب؛ لأنّ القرآن نزل باللغة العربیة[22].
لقد سلک القرآن الکریم مسلک أهل العربیّة فی إجرائه للتخاطب وأدائه للمعنى، ومن ثمّ وجب أن یکون المستنبط متمکّناً من ضوابط اللغة وأصول اللغة العربیّة فی تفهّمه لکتاب الله، وأن یتقیّد بمعهود العرب فی تخاطبهم فی هذا الفهم[23].
ومن ثمّ، فإنّ الاتّفاق حاصل بین علماء الأصول -باختلاف مدارسهم ومذاهبهم- على أنّ الاجتهاد فی الأحکام یستلزم الاجتهاد فی اللغة، وأنّ الضعف فی طلب اللغة العربیّة أو الإعراض عن علومها أو التقصیر فی طلبها، یجنّب المستدلّ الصواب، ویعرّضه للخطأ، ویفضی به إلى الزلل، ویجعل استدلالاته عرضة للخطأ؛ حیث تغیب عن هذه الاستدلالات مقاصد التشریع. قال الإمام فخر الدین الرازی )ت: 606هـ.ق.(: "لما کان المرجع فی معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار، وهما واردان بلغة العرب ونَحْوِهم وتصریفهم؛ کان العلم بشرعنا موقوفاً على العلم بهذه الأمور"[24].
وهذا المعنى هو الذی أکّده ابن حزم الظاهری الأندلسیّ عندما قال: "إنّه لا بدّ للفقیه من أن یکون نحویاً ولغویاً، وإلا فهو ناقص، ولا یحِلّ له أن یفتی؛ لجهله بمعانی الأسماء وبعده عن فهم الأخبار"[25].
وهذا الإشکال المنهجیّ هو الذی جعل جزءاً من مباحث علم أصول الفقه یتّجه نحو المباحث فی اللغة العربیة عامة، والدلالة اللفظیّة خاصّة، "فالسلطة المرجعیة فی علم أصول الفقه هی للبحوث اللغویّة، والمحور الرئیس الذی ینتظم هذه البحوث هو علاقة اللفظ والمعنى"[26].
فالمقتضى المعرفیّ الداعی إلى اشتغال الأصولیّین باللغة، یتحدّد فی أنّ النصّ القرآنیّ ظهر فی ثقافة تعبّر عن رسالتها وعن مضمونها باللغة العربیّة، وتسعى إلى إظهار هذا المعنى وإیضاحه -للمخاطب عامّة، وللمکلّف خاصّة- مفصّلاً میسّراً للفهم، حتى یستوعب مضمون الخطاب الشرعی، فکان من الضروری أن یجری التخاطب فی القرآن الکریم على الضوابط اللغویّة المحمولة فی هذه اللغة... وهو القسم الذی یعرف بین الأصولیّین بـ "فقه النصّ"[27].
ومن أبرز المحاور اللغویّة التی کانت مجال اشتغال علماء الأصول: مبحث اللفظ، وما تحمله هذه الألفاظ من معانٍ ودلالات، وما یطرأ علیها من تغیّرات وتحوّلات فی الدلالة والمعنى تبعاً للسیاق؛ وهی التغیّرات التی یکون فیها للسیاق والقرائن -بقسمیها الحالیّ والمقالیّ- الأثر الواضح فی تحدید الدلالة، وتعیین المعنى، والفصل بین الاستعمال اللغوی والاستعمال الشرعیّ، والمعنى الأصلیّ والمعنى التبعیّ.
هذا الاختیار هو الذی جعل علماء الأصول یُقْدِمون على متابعة اللفظ من مختلف الجهات والزوایا، ویرصدون معانیه من جمیع المستویات، وکان هذا الرصد، وهذه المتابعة من أوّل وضع الواضع إلى آخر فهم السامع؛ حیث یتعذّر ضبط جمیع هذه الجهات والمستویات التی کانت موضوع اشتغال علماء الأصول[28].
ومن مظاهر اشتغالهم على اللفظ، هو وضعهم للقواعد اللغویّة الأصولیّة، الضابطة والمعینة على الفهم والمعینة على البیان، على شکل کلّیّات وأصول عامّة.
لقد کان طبیعیاً، والحال أنّ اللغة العربیة هی لسان الشریعة، أن توضع قواعد الفهم والبیان من اللغة العربیة ذاتها، بعد استقراء واسع، وتتبّع لتراکیبها ولدلالتها ولطبیعتها فی الخطاب والتخاطب[29].
إنّ هذا التقارب المعرفیّ والمنهجیّ بین اللغة العربیّة وعلم أصول الفقه -الذی تشهد له مختلف الکتب والمدوّنات الکبرى فی علم أصول الفقه، خاصّة الکتب التی تُعدّ من قبیل الأُمَّهات؛ هو بحاجة إلى مزید من التأصیل والتقنین والبحث والمتابعة والتجدید، والقراءة من لدن الباحثین الیوم، خاصّة للمشتغلین بالدراسات اللغویة المقارنة؛ بحکم التطوّر الکبیر الذی مسّ علوم اللغة عامّة، ومناهج تحلیل الخطاب خاصّة فی الفترة المعاصرة؛ حیث شهدت علوم اللغة تطوّراً کبیراً، وهو ما یلزم عنه تمکّن المشتغلین بالدراسات الأصولیّة من هذه العلوم اللغویة الجدیدة، واطّلاعهم على کلّ جدید تحمله هذه العلوم؛ لأنّ المعرفة بهذه العلوم من شأنها أن تیسّر لهم تقویم منهج الفهم والتفسیر عند علماء الأصول تقویماً یبتنی على الضبط المنهجیّ، والتقیّد بضوابط اللغة العربیّة وأعرافها فی الفهم، وقوانینها فی الأداء، ومعهودها فی التخاطب؛ بقصد الاهتداء إلى المعانی الصحیحة التی یحملها القرآن الکریم، وفق ما هو معهود فی اللغة العربیّة، ومن ثمّ فإنّ مناحی التجدید المنهجیّ والمتابعة فی علم أصول الفقه -من حیث تطویر مباحثه؛ خاصّة ما تعلّق منها بالمادّة اللغویّة- یستحسن الانفتاح على الدرس اللغویّ المعاصر بجمیع اتّجاهاته، ولاسیّما ما عرفه هذا الدرس من تحوّلات فی مکوّناته ومجالاته ومحاوره[30].
2. الوجهة الاستدلالیة المنطقیّة فی علم أصول الفقه:
ومن المحاور المشیّدة لهذا العلم، والتی تکتسی أهمّیّة بالغة فی علم أصول الفقه: محور الاستدلال على الأحکام الشرعیّة. ویُعدّ هذا المحور الأساس والدعامة التی یقوم علیها صرح علم أصول الفقه[31].
وهذا المحور ملازم لمحور الفهم ومرتبطٌ به؛ حیث یمکن تشبیه العلاقة بینهما بعلاقة اللازم بالملزوم. ولقد عمل علماء الأصول على تأصیل منهج الاستدلال فی الدرس الأصولیّ، عن طریق تقعید القواعد على شکل کلّیّات من أجل تیسیر فهم النصّ الشرعیّ من قِبَل المجتهد، ومستنبط الأحکام الشرعیة بصفة عامّة. ومن الجهات التی وقع فیها التقاطع بین العلمین (أصول الفقه والمنطق) جهة القواعد الأصولیة؛ حیث عمد علماء الأصول إلى تقعید مجموعة من القواعد الأصولیّة واللغویّة والشرعیّة على شکل قضایا منطقیّة مرکّبة من موضوع؛ وهو المخبر عنه، ومن محمول؛ وهو الخبر. وهذه القضایا یغلب علیها الإیجاز والاختصار وتتّصف بالاطّراد[32].
وهذا یعنی أنّ علماء الأصول قاموا بتقعید هذه القواعد للاحتکام إلیها فی قراءة النصوص الشرعیّة، واستنباط الأحکام منها، "فلقد کان طبیعیّاً أن تخضع هذه القواعد اللغویّة الأصولیّة للقوانین العقلیّة المنطقیّة فی الصیاغة والبناء؛ باعتبار أنّ القاعدة هی -فی حدّ ذاتها- قضیّة کلّیّة تعرف بها أحکام جزئیّاتها"[33].
وأغلب هذه القواعد صیغت وشیّدت وفق قوانین التفکیر الأساس، ومبادئ المنطق؛ ومثال ذلک: القاعدة الأصولیّة: "الأمر بالشیء نهی عن ضدّه"، فهذه القاعدة الأصولیّة صاغها علماء الأصول وفق مبدأ عدم التناقض القاضی باستحالة الجمع بین النقیضین فی أیّ حال من الأحوال؛ حیث إنّ الأمر بالشیء هو فی حدّ ذاته نهی عن فعل کلّ ما خالف العمل المأمور به وعن کلّ ضدّ له.
ومن قبیل هذه القواعد المشیّدة على الاستقراء المنطقیّ:
- الأصل فی اللفظالإعمال.
- الأصل فی الخطاب أن یحقّق الفائدة.
- الأصل فی الکلام أن یحمل على الحقیقة.
- لا یصار إلى المجاز إلا بقرینة.
- إذا تعذّر الحمل على الحقیقة صیر إلى المجاز.
- الانتقال من المعنى الأصلی إلى التبعی لا بدّ له من صوارف.
- لا یخاطبنا الحقّ -سبحانه- باللفظ المهمل.
- إعمال اللفظ أولى من إهماله.
- التأویل خلاف الأصل.
- لا یصار إلى التأویل إلا بدلیل.
- السیاق حاکم.
- لا تکلیف بالمجمل ولا بالمبهم.
کما یُعدّ مبحث الدلالات من أهمّ المباحث التی جسّدت مستویات التواصل والتداخل بین علم الأصول والمنطق. ولتحقیق هذا التواصل عمل علماء الأصول على الاستفادة من مباحث المناطقة، واستثمروا دراساتهم ومباحثهم لغایة استغلال الطاقة الدلالیّة واللغویّة للنصّ الشرعیّ؛ لتکون هذه الدلالة المحمولة فی النصّ طریقاً معیناً فی استنباط الأحکام الشرعیّة. فالدلالات هی مسلک معتبر للعبور من المنطوق إلى المفهوم، ومن المنصوص إلى المستنبط، ومن الصریح إلى المضمر، ومن المعنى الأصلی إلى المعنى التبعی، ومن المعنى المطابقی إلى المعنى اللزومی[34].
ومبحث الدلالات مبحث تمّ استمداده بالاستقراء، فقد عنی علماء الأصول باستقراء الأسالیب العربیّة، وعباراتها ومفرداتها، وتراکیبها، واستمدّوا بهذا الاستقراء، وبما قرّره علماء اللغة العربیّة من قواعد وضوابط، عدداً من القواعد التی یتوسّل بها إلى فهم الأحکام من النصوص الشرعیة فهماً صحیحاً تقرّره أعراف اللغة العربیّة[35].
وهذا التوجّه إلى الدلالات من لدن الأصولیّین، کان استجابة لما تتطلّبه عملیّة الاستنباط من الدقّة والصرامة؛ وذلک بالانتقال من الخطاب الشرعیّ؛ باعتباره دالاً على القضیذة الشرعیّة؛ باعتبارها مدلولاً.
ویُعدّ هذا المبحث -مبحث الدلالات- فی أصله مبحثاً لغویّاً، احتضنه علماء الأصول فی مدارساتهم لعلاقة اللفظ بالمعنى؛ إذ لیس من المستبعد أن یکون لعلم المنطق الأثر فیه، علماً أنّ اشتغال المنطقی بالمباحث اللغویة أَمْلاه اشتغاله بمستوى المحاورة والمخاطبة فی صناعة المنطق، وهو الأمر الذی جعل صناعة المنطق تتّجه فی بعض جوانبها وأجزائها نحو القضایا اللغویّة، وبخاصّة فیما هو من قبیل القضایا اللفظیّة؛ وهو المحور المعروف بمحور الألفاظ فی علاقتها بالمعانی.
مضافاً إلى أنّ الإشکال اللسانیّ اللغویّ قد ارتبط بالإشکال المنطقیّ، فی أحضان التراث العربی الإسلامی؛ فقد اختلط الإشکال المنطقیّ وتداخل باللغة، واشترکت مسائلهما، خاصّة فی محور علاقة الألفاظ بالمعانی[36].
وهذا یدلّ على أنّ الاستفادة من علم المنطق فی الجانب اللغوی یعود إلى هذا الاعتبار؛ وهو أنّ علم المنطق من حیث هو علم منهجی لا یتطلّب الدقّة فی التفکیر فحسب؛ بل یتطلّب -أیضاً- الدقّة فی استعمال الألفاظ والتراکیب اللغویّة التی هی أداة التعبیر عن التفکیر.
لقد کشف ابن خلدون (ت: 808هـ.ق.) فی "المقدّمة" عن المراحل الکبرى التی قطعها علم أصول الفقه فی تفاعله مع المنطق، وبیّن أنّ علم أصول الفقه مرّ بعدّة مراحل، وقطع عدّة أشواط. ویمکن التمییز فی هذه المراحل بین مرحلتین أساسین فی تطوّر هذا العلم:
- مرحلة الإمام الشافعی (ت: 204هـ.ق.)، حیث کانت مباحث علم أصول الفقه مرکّبة من العلوم الأصلیة الصافیة المجرّدة عن المباحث المنطقیّة، ومن العلوم المنقولة... وهو ما یعکسه، ویکشف عنه کتابه "الرسالة" الذی یُعدّ من أقدم الکتب فی هذا العلم.
- مرحلة الإمام الغزالیّ (ت: 505هـ.ق.)، وتعدّ هذه المرحلة من أبرز المراحل التی قطعها هذا العلم فی مساره التاریخیّ وفی تطوّره، من حیث احتکاکه، وتداخله مع علم المنطق؛ حیث مثّل الإمام الغزالی (ت: 505هـ.ق.) فی المشرق الریادة والأسبقیّة فی تداخل علوم الشریعة مع علم المنطق؛ فقد عکس کتابه "المستصفى فی علم أصول الفقه" قمّة الاکتمال والنضج فی التألیف الأصولیّ، فهو یقدّم أنموذجاً للکتابة الأصولیّة، وقد اختار الغزالی تصدیر کتابه بمقدّمة ذهب فیها إلى أنّ من لا یعرف المنطق لا ثقة بعلومه، وأنّ على المجتهد أن یعرف مدارک العلوم النظریة، خصوصاً الحدّ والبرهان[37].
والذی أهّل الإمام الغزالیّ للقیام بهذا التقریب بین المنطق وعلم أصول الفقه، هو ثقافته المنطقیّة الواسعة التی اکتسبها من خلال اطّلاعه الواسع على الفلسفة وعلى المنطق الإغریقیّ، وسخّرها فی تشییده مجموعة من الأشکال والأنساق الاستدلالیّة التی یحتاجها الأصولیّ، والتی ترجمها فی المؤلّفات التی ترکها فی هذا العلم، ووجّهها فی استدلاله على الأحکام الشرعیّة، أو فی تفهّمه للنصوص الشرعیّة؛ لأنّ المنطق هو العلم والآلة التی تعمل على الفصل والاستدلال، وبیان صحیح الدلیل من فاسده، والممیّز بین الأقیسة الصحیحة من الفاسدة، کما إنّ علم أصول الفقه هو -من جهة أخرى- منطق الفقه.
واعتبر الإمام الغزالیّ الممارسة المنطقیة ممارسة ضروریّة لمتعاطی علم أصول الفقه، والمشتغل بعلوم الشریعة؛ فالمقدّمة المنطقیّة التی جاءت فی کتاب المستصفى لیست من مطالب علم أصول الفقه، ولا هی من مقدّماته؛ بل هی مقدّمة لکلّ العلوم[38].
وتبقى مساهمة الإمام الغزالی مساهمة رائدة فی بابها، متمیّزة فی مداخلها ومکوّناتها وعناصرها، حیث إنّ أبا حامد الغزالیّ أدخل المنطق إلى العلوم الإسلامیّة، وألزم مفکّری الإسلام مدارسته، والتمکّن منه، وعلّل حضور المنطق فی التداول العربی الإسلامی، بأنّ الاستدلال فی الفقهیّات لا یباین الاستدلال فی العقلیات؛ بل إنّ ثمّة انسجاماً، وتوافقاً، وتکاملاً بین الاستدلال البرهانیّ والاستدلال الفقهیّ. کما لا ینبغی تبخیس مساهمة الإمام ابن حزم الأندلسیّ التی تُعدّ مساهمة رائدة فی بابها؛ إذ اعتبر أنّ فائدة المنطق لا تنکشف ولا تنجلی إلا بتصریفه واستثماره فی غیره من العلوم[39].
وتُعدّ هذه المرحلة التی حضر فیها المنطق إلى جانب علم أصول الفقه -سواء مع الغزالیّ فی المشرق، أو مع ابن حزم الأندلسیّ فی الغرب الإسلامیّ- من أبرز المراحل فی تاریخ المنطق، حیث اکتسب المنطق المشروعیّة، والحضور العلمیّ والفعلیّ المتمیّز بین المعارف والعلوم الإسلامیّة[40].
3. تداخل علم أصول الفقه مع فقه الواقع:
إنّ المحور الثالث فی علاقة التداخل بین علم أصول الفقه والعلوم الإسلامیّة هو محور فقه الواقع؛ ویُراد به الاجتهاد التنزیلیّ؛ ذلک أنّ تنزیل الحکم الشرعیّ من النصّ إلى الواقع یحتاج إلى معرفة عمیقة وسدیدة بالواقع، فی حرکیّته وسکونه، وفی ثباته ومتغیّراته، وفی التبصّر بمؤثّراته وتحوّلاته من دون إغفال أو إهمال ما للملابسات والأحوال والإکراهات التی تعترض المکلّف فی تفاعله مع هذا الواقع، والتی یکون لها الأثر الأکبر فی تنزیل الحکم الشرعی على تصرّفاته. فالفرق قائم بین أن ینزّل الحکم الشرعی مجرّداً عن الإضافات والتوابع والسیاقات، وبین أن تراعى فیه تلک التوابع والإضافات واللواحق عند تنزیل الحکم الشرعی إلى الواقع المعاش؛ لأنّ من شأن هذه المعرفة أن تحقّق المقاصد الکبرى للشارع.
فلا یقتصر عمل المجتهد فی الخطاب على تفسیر الخطاب وبیانه، واستنباط الحکم الشرعی منه؛ وإنّما یعدّ هذا العمل خطوةً أوّلیة فقط، تلیها خطوة أخرى ربّما کانت أکثر أهمّیّة؛ وهی تنزیل الحکم الشرعی على تصرّفات الناس فی واقعهم الاجتماعیّ الذی یعیشون فیه، مع مراعاة السیاق والشروط فی هذا الواقع؛ لأنّ السیاق حاکم؛ کما یقول الأصولیّون[41].
ویُعدّ الإمام أبو إسحاق الشاطبیّ من أبرز علماء أصول الفقه الذین عملوا على تأصیل هذا النوع من الاجتهاد (فقه التنزیل) من خلال ربط المادّة الأصولیّة بالواقع وبمقاصد التشریع؛ إذ اشترط على المجتهد أن یکون على اطّلاع على "الجهة التی ینظر فیها، لینزّل الحکم الشرعی وفق تلک الجهة"[42]. وممّا قرّره الإمام الشاطبیّ فی سیاق حدیثه عن دور المقاصد فی تنزیل الحکم الشرعی: أنّ إهمال المقاصد الشرعیّة فی الاجتهاد، أو التغافل عنها، أو التقصیر فی طلبها أو فی تحقیقها من شأنه أن یجعل الاجتهاد خارجاً عن الطریق، ومنحرفاً عن السبیل المرسوم له، فمن حاد عن المقاصد اختلّ حکمه واضطرب فهمه للشریعة الإسلامیة[43].
ویُعدّ علم مقاصد الشریعة من أبرز العلوم التی تساهم فی تعریف الفقیه بهذا النوع من الاجتهاد الذی هو الاجتهاد فی الواقع؛ فهو من العلوم المبصرة بالواقع والکاشفة له فی ثباته ومتغیّراته، وهو الرابط الجامع لأحکام الشریعة والمعین على تحویل ما تمّ استنباطه من النصّ من أحکام، وما تمّ اکتسابه من معانٍ شرعیة کلّیّة أو جزئیّة، إلى تصرّفات واقعیة مجسّدة فی الواقع، وکذا فی تصرّفات المکلّف.
فالفقیه -الیوم- هو الفقیه المتمکّن من أحوال عصره وأوضاعه وثقافته ومشاکله الیومیّة، والمطّلع على الثابت والمتغیّر فی هذا الواقع، والمنفتح على العلوم الإسلامیة والمعارف العلمیة المساعدة والمُعیْنة على استکشاف السنن المتحکّمة فی هذا الواقع. وبعبارة ابن القیّم (ت: 751هـ.ق.): "هو الذی یجمع بین النصّ والواقع، ویحقّق التواصل بین ما هو نظریّ وما هو تطبیقیّ، لا من یلقی العداوة بینهما، ویقطع التواصل بینهما، فلکلّ زمان حُکْم، والناس بزمانهم"[44]؛ لأنّ هذه المعرفة هی التی تضمن له تنزیل الأحکام تنزیلاً سدیداً فی واقع الناس، وفی حیاتهم. ومن شأن هذه المعرفة بهذه العلوم الکاشفة للسنن فی هذا الواقع أن یکون لها الأثر الأکبر فی تنویع الحکم الشرعی؛ تبعاً للحال والوضع الذی یکون علیه المکلّف. قال الإمام الشاطبی: "إنّ النفوس لیست فی قبول الأعمال الخاصّة والعامّة على درجة واحدة"[45]. وبمقدار فقه الواقع ووفق المقتضیات العلمیّة، یمکن للمجتهد أن ینجح فی تحقیق أغراض الدین والوصول إلى مقاصد التشریع، ویقی نفسه من الفوضى التشریعیة التی عرفتها الساحة الثقافیة فی الآونة الأخیرة؛ بسب غیاب هذه الضوابط والأصول المسدّدة للعملیّة الاجتهادیة.
ومن العلوم المُعیْنة على هذه المعرفة بالواقع، والتی یلزم على المفتی الاستعانة بها؛ بل التمکّن منها: العلوم الإنسانیّة؛ لأنّ الاستعانة بنتائج العلوم والمعارف الإنسانیّة ضرورة منهجیّة من أجل التعرّف على مکوّنات المجتمع واستکشاف الواقع، والوقوف على تحوّلاته، وإنْ کانت الحاجة ماسّة إلى تخلیص هذه العلوم من توجّهاتها المذهبیّة، وخلفیّاتها العقدیّة ومرجعیّاتها الفکریّة.
وعلى الرغم من أنّ هذه المعرفة قد لا تکون فی مقدور الفقیه الیوم؛ بحکم تشعّب العلوم، وتفرّع مسالکها، وتنوّع اختصاصاتها، فإنّ الضرورة العلمیة توجب علیه الاستعانة بأهل الخبرة والمعرفة بهذه العلوم، فی استکشافه لهذا الواقع، وتبصّره بمؤثّراته ومکوّناته.
ومن ثمّ، فإنّ التواصل ضروری بین فقیه النصّ وفقیه الواقع، ومن شأنه أن یجیب عن الإشکالات التشریعیّة والتساؤلات الفقهیّة الکبرى التی تعیشها الأمّة الإسلامیة الیوم. وهذا من شأنه أن یحقّق مقاصد التنزیل، ویجعل العملیّة الاجتهادیّة أکثر سداداً فی إصابة الحقّ وتحقیق مقاصد الشرع.
وعلیه، فإنّ الصیغة المثلى فی الاجتهاد الیوم تکمن باللجوء إلى الاجتهاد الجماعیّ الجامع بین فقهاء النصوص وخبراء الواقع؛ لأنّ الفقهاء یعلمون النصوص ومقاصدها، والخبراء یعرفون الواقع ومآلاته وتحدّیاته وإکراهاته وإمکانیّاته ومؤهّلاته؛ لأنّهم یعتمدون على المعطیات العلمیّة المشیّدة على البحوث المیدانیة، والرصد المستمرّ للظواهر الإنسانیّة، والبیانات الإحصائیّة. فمن شأن هذا الجمع والتولیف أن یجعل العمل الاجتهادیّ أکثر استیعاباً للقضیة، وإلماماً بالموضوع المطروح فی جمیع الجوانب والمستویات؛ لأنّ الحکم الشرعیّ مرکّب من المعرفة بالنصّ والمعرفة بالواقع. وهذا التواصل یشغل معادلة صعبة الیوم؛ بسبب تباعد أطراف هذه المعادلة من حیث التکوین واختلاف التخصّصات؛ إذ یتطلّب الظرف التاریخیّ الراهن جهوداً متنوّعة تتواصل فیها المعارف، وتلتقی فیها الخبرات، وتتقارب فیها المهارات، وتعْبر فیها هذه المعارف إلى جمیع العلوم من أجل إعادة الحیاة للاجتهاد، وحلّ الإشکالات التشریعیّة الدقیقة والکثیرة التی تطرحها الحیاة المعاصرة الیوم بشکل کبیر؛ وکذا من أجل بعث حرکیّة جدیدة للفقه الإسلامیّ، واستئناف المسار الاجتهادی للأمّة، تحقیقاً لأحد ثوابت الخطاب الإسلامیّ، وهو استمرار هذا الخطاب باستمرار الحیاة الإنسانیّة[46].
خاتمة:
تشکّل هذه الأهمّیّة التی یحظى بها علم أصول الفقه على مستوى الفقه والتشریع والتنزیل حافزاً لتلاقی مجموعة من العلوم والمعارف وتواصلها؛ خدمة للهدف التشریعیّ الذی من أجله أُسّس هذا العلم ووُضع، والذی یتحدّد فی ضبط الفهم وتسدید الاستنباط.
وقد جسّد التواصل بین علم الأصول والعلوم الأخرى أحد تجلّیات التکامل المعرفیّ بین العلوم والمعارف فی الثقافة العربیّة الإسلامیّة، وهو تکامل یکاد یکون قاسماً مشترکاً بین جمیع العلوم والمعارف التی ظهرت فی الثقافة العربیّة الإسلامیّة.
إنّ الرهان الأکبر فی هذا العلم هو على التفاعل مع المستجدّات التی طرأت فی حیاة المسلمین الیوم من أجل تلبیة الحاجات المطروحة. وهذا مدعاة إلى ضرورة مراجعة هذا العلم فی موضوعه ومناهجه؛ لأنّ من شأن هذه المراجعة أن تساعد على تحقیق عملیّة التواصل بشکل أکبر بین المعارف التی لها قرابة علمیة أو صلة معرفیّة بموضوعه وبمناهجه، وبخاصّة ما کان من العلوم الإنسانیة المُعیْنة والمساعدة على تبصّر الفقهاء ومساعدتهم على استکشاف الواقع الذی هو موضوع اشتغالهم فی استنباطاتهم، أو فی تنزیلهم للأحکام الشرعیّة.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] انظر: عبد الرحمان، طه: تجدید المنهج فی تقویم التراث، ط3، المرکز الثقافی العربی، 2000م، ص23.
[3] انظر: کتاب أعمال مؤتمر: "تداخل العلوم الإسلامیة مع العلوم الأخرى"، الجزائر، جامعة الأمیر عبد القادر-کلیة أصول الدین، 24-25 نوفمبر 2015م.
[4] ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدمة، تصحیح: أبو عبد الله السعید، ط4، القاهرة، مؤسسة الکتب الثقافیة 2008م، ص535.
[5] ابن خلدون، المقدمة، م.س، ص555.
[6] م.ن، ص544.
[7] ابن رشد الحفید، محمد: الضروری فی صناعة النحو، تحقیق ودراسة: منصور علی عبد السمیع، مصر، 2010م، ص22.
[8] م.ن، ص21.
[9] انظر: "تکامل المعارف: اللسانیات والمنطق والفلسفة" محاورة مع الدکتور طه عبد الرحمان، مجلة دراسات سمیائیة، أدبیة لسانیة، العدد2، ربیع 1988م.
[10] عبد الرحمان، طه: حوار من أجل المستقبل، المغرب، منشورات الجیب 1999م، ص28.
[11] الراجحی، عبده: النحو العربی واللسانیات المعاصرة، ضمن کتاب جماعی "البحث اللسانی والسمیائی"، الرباط، منشورات کلیة الآداب رقم السلسلة6، 1981م، ص153.
[12] ابن جزی، محمد: مقدمة تفسیر التسهیل، تحقیق: محمد بن سیدی محمد مولای، الکویت، دار الضیاء، 2011م، ج11، ص1.
[13] ابن خلدون، المقدّمة، م.س، ص585.
[14] عبد الرحمان، طه: تجدید المنهج فی تقویم التراث، ط3، المرکز الثقافی العربی، بیروت؛ الدار البیضاء، 2000م، ص93.
[15] صنّف ابن خلدون فی مقدّمته العلوم وقسّمها إلى قسمین: علوم مقصودة بالذات؛ کالشرعیات من تفسیر وحدیث وفقه، وعلوم وسیلة خادمة للعلوم الأصلیة؛ مثل العربیة للشرعیات والمنطق للفلسفة. انظر: ابن خلدون، المقدّمة، م.س، ص544.
[16] انظر: عبد الرازق، مصطفى: تمهید فی تاریخ الفلسفة الإسلامیة، ط3، القاهرة، مکتبة النهضة المصریة، 1966م، ص12.
[17] انظر: الباجی، سلیمان بن خلف: إحکام الفصول فی إحکام الأصول، تحقیق: عبد المجید الترکی، ط4، بیروت، دار الغرب الإسلامی، 1998م، مقدّمة التحقیق، ص22.
[18] انظر: الزرکشی، بدر الدین: البحر المحیط، تحریر ومراجعة: عمر الأشقر وآخرین، ط1، الکویت، وزارة الأوقاف، 1990م، ج1، ص12.
[19] انظر: عبد الرحمان، طه: الحوار أفقأ للفکر، بیروت، الشبکة العربیة للأبحاث والنشر، 2011م، ص132.
[20] فضل الله، مهدی: العقل والشریعة، ط1، بیروت، دار الطلیعة، 1991م، ص13.
[21] انظر: ابن عاشور، الطاهر: مقاصد الشریعة الإسلامیة، تحقیق: محمد الطاهر المیساوی، القاهرة، دار البصائر، 1998م، مقدّمة التحقیق، ص31.
[22] انظر: الشافعی، محمد بن إدریس: الرسالة، تحقیق: أحمد محمد شاکر، القاهرة، مکتبة ومطبعة مصطفى البابی الجلبی، 1986م، ص52.
[23] انظر: العلمی، عبد الحمید: الدرس الدلالی عند الإمام الشاطبی، المغرب، منشورات وزارة الأوقاف المغربیة، 2000م، ص213.
[24] الرازی، فخر الدین: المحصول، تحقیق: طه جابر العلوانی، بیروت، مؤسسة الرسالة، 1992م، ج1، ص221.
[25] الأندلسی، ابن حزم: الإحکام فی أصول الأحکام، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1994م، ج1، ص51.
[26] الجابری، محمد عابد: بنیة العقل العربی، ط1، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 1987م، ص56.
[27] انظر: الشافعی، الرسالة، م.س، ص52؛ الزنکی، نجم الدین: نظریة السیاق (دراسة أصولیة)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 2006م، ص21.
[28] انظر: حمادی، إدریس: الخطاب الشرعی وطرق استثماره، بیروت، المرکز الثقافیّ العربیّ، 1986م، ص445.
[29] انظر: صالح، أدیب: تفسیر النصوص، ط3، بیروت، المکتب الإسلامیّ، 1984م، ج1، ص9.
[30] من الدراسات التی حاولت البحث فی أوجه التشابه بین الدرس الأصولیّ والدرس اللغویّ المعاصر فی محور التفسیر والتحلیل والدلالة:
- أصبان، إبراهیم: السیاق بین اللغویّین والأصولیّین، مجلة الإحیاء، المغرب، العدد25، 2007م.
-زنکی، نظریة السیاق (دراسة أصولیة)، م.س.
- رمضان، یحیى: القراءة فی الخطاب الأصولیّ، الأردن، عالم الکتب الحدیث، 2008م.
- علی، محمد یونس: علم التخاطب الإسلامیّ (دراسة لسانیة لمناهج علماء الأصول فی فهم النصّ)، بیروت، دار المدار، 2008م.
- الدیری، أحمد: طوق الخطاب، بیروت، المؤسّسة العربیّة للنشر، 2008م.
- المتوکّل، أحمد: نظریة الدلالة عند علماء العرب القدماء (دراسة مقارنة)، الرباط، منشورات کلّیّة الآداب، 1980م.
[31] قال الإمام الغزالیّ (ت: 505هـ.ق.): "اعلم أنّ هذا القطب هو عمدة علم أصول الفقه". الغزالی، أبو حامد: المستصفى، ط1، بیروت، دار إحیاء التراث العربیّ، 1980م، ج1، ص11؛ وانظر: الکبیسی، حمد حمید: "الدلالة وأثرها فی تفسیر النصوص"، مجلة کلیة الشریعة العراقیة، العدد1، 1986.
[32] یراد بالقاعدة: قضیة کلیة ینطبق حکمها على جزئیات کثیرة. والقضیة هی: قول حکم فیه بشیء على شیء؛ مثل قولنا: زید ذاهب، وعمرو منطلق.
[33] باریش، میمون: "التداخل بین العلوم الإسلامیة (علم أصول الفقه)"، مجلة البصائر، فصلیّة، تصدر عن دائرة الرباط العلمیة للبحث فی الدراسات الإسلامیة بکلیة الآداب والعلوم الإنسانیة (جامعة محمد الخامس)، الرباط، العدد4، 2007م.
[34] انظر: مجاهد، عبد الکریم: "الدلالة عند الأصولیّین"، مجلة الفکر العربیّ، العدد11، السنة7، 1986م.
[35] انظر: خلاف، عبد الوهاب: علم أصول الفقه، ط14، الکویت، دار القلم، 1980م، ص144.
[36] انظر: الحمیانی، فاطمة: حروف المعانی بین المناطقة والنحاة، الرباط، منشورات کلیة الآداب، العدد57، ص11.
[37] انظر: الغزالی، المستصفى، م.س، ج1، ص11.
[38] انظر: الطوفی، نجم الدین: شرح مختصر الروضة، تحقیق: عبد الله الترکی، ط1، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1973م، ج1، ص100.
[39] انظر: الأندلسی، ابن حزم: التقریب لحد المنطق، تحقیق وتقدیم: عبد الحق الترکمانی، بیروت، دار ابن حزم، 2007م، ص22.
[40] انظر: عبد الرحمان، طه: "مشروعیة المنطق"، مجلة المناظرة، فصلیّة تعنى بالمفاهیم والمناهج الفلسفیة، الرباط، العدد1، 1998م.
[41] انظر: حمادی، الخطاب الشرعی وطرق استثماره، م.س، ص127.
[42] الشاطبی، إبراهیم: الموافقات، م.س، ج4، ص165.
[43] انظر: م.ن، ج4، ص117.
[44] ابن القیّم الجوزیّة، محمد: إعلام الموقعین، بیروت، دار الکتاب العربی، 1997م، ج4، ص220.
[45] الشاطبی، الموافقات، م.س، ج4، ص70.
[46] انظر: أعمال ندوة بعنوان "العولمة وآثارها على الاجتهاد وآفاقه"، تنسیق: فاروق حمادة، الرباط، منشورات کلیة الآداب، 2009م.