علم أصول الفقه -مکامن الجمود وممکنات التجدید-

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة

المستخلص

       تتوخّى هذه المقالة مقاربة علم أصول الفقه -مقاربة تشخیصیّة تحلیلیّة- فی واقعه الحالیّ من جانبین اثنین؛ یرتبط أولهما بما أضحى یمیّز هذا العلم، فی کثیر من مناحیه، من مظاهر الانحصار والجمود، وعدم الفاعلیة والتأثیر؛ ومن ثمّة ابتعاده عن مسایرة مستجدّات الأحداث، وتخلّفه عن مواکبة متغیّرات حیاة الناس وقضایاها الطارئة، وإشکالاتها الجدیدة. أما الجانب الثانی، فیتعلّق بآفاق التطویر والتجدید فی هذا المجال، وبإمکانات ذلک ومداخله على مستوى المعرفة والتصوّر والإدراک، وعلى صعید المنهج والأدوات والوسائل؛ الشیء الذی من شأنه أن یمثّل دعوة إلى من یعنیه الأمر لاستئناف الاجتهاد فی هذا الاتّجاه، عسى أن یستعید هذا العلم الأصیل الجلیل حیویّته وفاعلیّته، ویسترجع مکانته وقیمته فی فکر المسلمین الراهن، وواقع حیاتهم المعاصر على حد سواء.
ومن مداخل التطویر والتجدید فی علم أصول الفقه؛ هو لحاظ طبیعة علاقته المنهجیّة والمعرفیّة مع العلوم الإنسانیّة والاجتماعیّة بمختلف فروعها وأنواعها؛ وفق رؤیة تکاملیّة، والعمل على جعله مواکباً للواقع ومتغیّرات الزمان والمکان، وملبّیاً لاحتیاجات الإنسان ومتطلّباته؛ بدقّة ومرونة ودینامیّة.

نقاط رئيسية

أوَّلاً: موجبات التجدید ومقتضیاته

ثانیاً: الأساس الفکریّ لتجدید أصول الفقه

ثالثاً: الحاجة إلى قواعد أصولیَّة مغایرة

رابعاً: الواقع الخارجیّ أفقًا لتطویر النظر الفقهیّ والأصولیّ

خامساً: التجدید المنهجیّ لأصول الفقه

الكلمات الرئيسية


علم أصول الفقه -مَکَامنُ الجمود ومُمْکنات التجدید-

الدکتور العیاشی الدراوی[1]

خلاصة:

       تتوخّى هذه المقالة مقاربة علم أصول الفقه -مقاربة تشخیصیّة تحلیلیّة- فی واقعه الحالیّ من جانبین اثنین؛ یرتبط أولهما بما أضحى یمیّز هذا العلم، فی کثیر من مناحیه، من مظاهر الانحصار والجمود، وعدم الفاعلیة والتأثیر؛ ومن ثمّة ابتعاده عن مسایرة مستجدّات الأحداث، وتخلّفه عن مواکبة متغیّرات حیاة الناس وقضایاها الطارئة، وإشکالاتها الجدیدة. أما الجانب الثانی، فیتعلّق بآفاق التطویر والتجدید فی هذا المجال، وبإمکانات ذلک ومداخله على مستوى المعرفة والتصوّر والإدراک، وعلى صعید المنهج والأدوات والوسائل؛ الشیء الذی من شأنه أن یمثّل دعوة إلى من یعنیه الأمر لاستئناف الاجتهاد فی هذا الاتّجاه، عسى أن یستعید هذا العلم الأصیل الجلیل حیویّته وفاعلیّته، ویسترجع مکانته وقیمته فی فکر المسلمین الراهن، وواقع حیاتهم المعاصر على حد سواء.

ومن مداخل التطویر والتجدید فی علم أصول الفقه؛ هو لحاظ طبیعة علاقته المنهجیّة والمعرفیّة مع العلوم الإنسانیّة والاجتماعیّة بمختلف فروعها وأنواعها؛ وفق رؤیة تکاملیّة، والعمل على جعله مواکباً للواقع ومتغیّرات الزمان والمکان، وملبّیاً لاحتیاجات الإنسان ومتطلّباته؛ بدقّة ومرونة ودینامیّة.

 

مصطلحات مفتاحیّة:

          أصول الفقه، الفقه، الجمود، التجدید، التطویر، المنهج، العلوم الإنسانیة، الوحی، القرآن، السنّة، العقل، مقاصد الشریعة، الواقع...

 

مقدّمة:

من المعلوم أنّ علم الأصول إنّما وضع فی الأصل لأجل أن یکون المنهج الذی یمدّ الفقهاء بالأدوات والوسائل الممکّنة من القیام باستنباط سلیم للحکم الشرعیّ، لذلک فنسبته إلى الفقه کنسبة المنطق إلى الفکر، لکنّ المستقرئ لتاریخ هذا العلم (علم الأصول) یلحظ أنّه وقع تحت تأثیر التوجّهات الکلامیّة والفلسفیّة وابتعد کثیراً عن نطاق معطیات اللغة وعن النطاق المعرفی اللذین کان من المفترض أن یکونا من أولویّات فهم النصّ الدینیّ وتأویله. وبفعل هیمنة الجوانب الکلامیّة والفلسفیّة على علم الأصول دخل فی نفق التجرید والصوریة، وصار یبتعد شیئاً فشیئاً عن واقع النصّ کما عن واقع الناس، بحیث تحوّل -نتیجة لذلک- إلى هدف مقصود لذاته مکان أن یکون وسیلة.

 

أولاً: مُوجبات التجدید ومقتضیاته:

لا یخفى أن أیّ علم عندما یتحوّل إلى غایة فی ذاته یغدو مجرّد ترف زائد لا یقدّم للإنسان أیّ نفع، والعلم الذی لا نفع فیه کـ"اللاعلم" على حدٍّ سواء؛ بل ربما یصیر خطراً على الإنسان یشلّ فیه حریة التفکیر ویخرج به من نطاق الواقع بتحدّیاته ومتطلباته إلى مجال الخیال والوهم.

ولعل ذلک یقتضی -من ضمن ما یقتضیه- إعادة النظر فی المنهج الاستنباطی وفتح المجال من أجل صیاغة علم أصول جدید واستئناف النظر فی منطلقاته ومرتکزاته بما یجعله قادراً على استیعاب التحولات العمیقة فی طرائق التفکیر وموضوعات الأحکام[2]، ویکون -تبعاً لذلک- محقّقاً التوازن المطلوب بین أصالته الثابتة (بما هو علم یعکس خصوصیة العقل المسلم وهویّته التقنینیة والتقعیدیة) من جهة، وبین استجابته لمتغیرات الحاضر واستشرافه وانفتاحه على المستقبل من جهة أخرى، فـ"من لم یطرق أبواب المستقبل بحزم اقتحم المستقبل رحابه بقوّة، والمجتمع الذی لا یطوّر وسائل حیاته (المادیة والفکریة) یحکم على نفسه بالهلاک.

ولا یعنی التطویر تقلید الآخرین؛ بل اتّباع نهج وسطی یحافظ به على قیمه ویجعلها محور تطویر للوسائل. ومعلوم أنّ الشرائع الإلهیّةلم تنسخ فی أصولها؛ بل فی بعض التفاصیل لحکمة الحاجة إلى التغییر والتجدید. والإسلام هو رسالة الله المهیمنة على سائر الشرائع، بما فیها من قیم ومن نظام تطویر فی سبیل تحقیقها، ولهذا فالتطویر فی أحکام الدین یکون قائماً على أسس ثابتة، هی منظومة التعالیم المثلى المتوفّرة فی کتاب الله المجید وفی محکمات السنة الشریفة"[3].

ومعنى هذا أنّ ضرورة التطویر آتیة بالأساس من ضرورة تطبیق أحکام الشرع، بالنظر إلى أنّ کثیراً من تلک الأحکام لا یمکن تطبیقها إلا بمقدّمات، وهذه المقدّمات سوف تکتسب شرعیتها ووجوبها من وجوب ذیها؛ أی ذی المقدمات التی أوجبها الله جل جلاله. وغنیٌّ عن البیان فی هذا المقام أنّ عملیة التطویر تلک إنّما تتمّ استناداً إلى منطلقین أساسین؛ أمّا الأوّل، فهو "الوحی" الذی یحدّد القیم والحکم والأحکام بصورة أساس. وأما الثانی، فهو "العقل" الذی یقوم باکتشاف الحیاة واستقراء الوقائع ومعرفة الحقائق الجزئیة، فضلاً عن مساعدته الإنسان وهدایته إلى معرفة الحقائق الکبرى؛ أی ما یتصل بالمعارف الإلهیة، وبهذا یکون التطویر -کما سبق البیان- على محور الوحی من جهة، وعلى قاعدة العقل من جهة ثانیة.

فهذا العقل هو الذی یکشف ضرورة التطویر؛ لأنّه یکشف التغیّرات الحاصلة على مستوى الموضوع والتحوّلات الطارئة على صعید الواقع، ولهذا فما دام "العقل یقوم بتحدید الموضوعات، وما دامت الأحکام تتغیّر مع الموضوعات، فإنّ العقل یقوم -تبعاً لذلک- بدور أساس فی معرفة ضرورات التطویر. ومن هنا، فإنّ مساحة هذا التطویر تتمّ فی الوسائل والأدوات التی لم ینصّ الشرع على قدسیّتها، أو یبیّن حکمها، ولکن لو کانت ثمّة أولویة أو أهمیة للحکم تفوق قدسیّة الوسیلة أو أهمّیّتها أو حکمها، فإنّ التطویر یکون من نصیب الموضوع"[4].

وبکلام آخر، إذا کان الوحیُ یحدّد الموضوعات، فإنّ التطویر یکون -فی الحقیقة- بتطبیق أحکام الشرع على الموضوعات المتطوّرة والمتغیّرة حسب تغیّراتها وتطوّراتها[5]. ولهذا نجد أنّ حصیلة الاجتهاد الأصولیّ والفقهیّ التاریخیّة تؤکّد أنّ دائرة العمل الاجتهادیّ کانت تتّسع کلّما اتّسعت رقعة الإسلام وامتدَّ نطاقه، وتواردت علیه المشکلات والنوازل الجدیدة، الأمر الذی أحْوج العلماء والأئمّة إلى التوسّع فی أدلّة الاستنباط ووسائله؛ بل إنّنا نجد هذا واضحاً مجسّداً حتى فی العهد النبویّ فی تعلیمات الرسول الأکرم (ص) لمعاذ بن جبل وهو یُعِدُّهُ لمواجهة الجدید الذی لم یردْ فی کتاب ولا فی سنّة، لمّا أرسله قاضیاً إلى الیمن. وکان هذا واضحاً -أیضاً- فی مناهج الفتوى والعمل بین الصحابة الذین خرجوا إلى الأمصار المفتوحة والذین لزموا المدینة، وفی نشوء المدرستین المعروفتین: "مدرسة الرأی" و "مدرسة الأثر"[6].

بالنظر إلى هذا کله یبقى علم أصول الفقه فی أصله علماً بدیعاً فریداً تتجلّى فیه روح الإبداع والابتکار، یعکس ذکاء الحضارة العربیة الإسلامیة، وتمیّز العقل الإسلامی فی تعامله المخصوص مع النص والوحی، کما فی تفاعله الإیجابی المتوازن مع واقع البشر وحیاة الناس؛ استناداً إلى النظر والعقل المهتدَیَیْن بهدی الدین والموجَّهیْن بالقرآن الکریم والسنة الشریفة.

ولعل من أبلغ الأقوال وصفاً وتعبیراً عن حقیقة هذا العلم ما ذکره أبو حامد الغزالی فی مقدّمة کتابه "المستصفى فی علم الأصول"، حیث قال: "أصول الفقه هو من أشرف العلوم؛ لأنّه یأخذ من صفو الشرع والعقل على حدٍّ سواء؛ فلا هو تصرّف بمحض العقول، حیث لا یتلقّاه الشرع بالقبول، ولا هو مبنیّ على محض التقلید الذی لا یشهد له العقل بالتأیید والتسدید"[7].

 

ثانیاً: الأساس الفکری لتجدید أصول الفقه:

یجد الناظر فی واقع هذا العلم الیوم أنّه قلیل التأثیر فی الفکر الإسلامیّ عدیم الفعّالیّة فی ساحة الثقافة الإسلامیّة على مستوى المنهج والرؤیة، کما على مستوى المعرفة والخبرة؛ ما یدلّ على أن ثمّة خللاً ما فی العلاقة بین أصول الفقه والفکر الإسلامیّ عامّة، الأمر الذی یتطلّب -من ضمن ما یتطلّب- دراسات وافیة واجتهادات عمیقة تتحدّث بالأساس فی أصول الفقه من حیث هو فکر قبل أن یکون علماً، وهذا ما یحتاجه العقل الإسلامیّ الیوم فعلاً، "فالدراسات فی أصول الفقه أکثر من أن یُحاط بها، وهی التی استحوذت على الاهتمام قدیماً وحدیثاً، فی حین أنّ الدراسات عَنْهُ (عن أصول الفقه) قلیلة ومتفرّقة. وما هو جدیر بالإشارة أنّ الدراسات التی جاءت عن أصول الفقه (أی من حیث هو فکر) هی التی فتحت أمامه آفاق التجدید والتطویر وبلورت مسارات هذه الآفاق واتجاهاتها، وهی التی أکّدت حاجة هذا المعنى وضرورته فی ساحة أصول الفقه، وکشفت عن قیمته وحیویّته، کما إنّ هذا النمط من الدراسات هو الذی بعث فی أصول الفقه روح الحداثة والیقظة، ونبّه على ضرورة الالتفات إلى ما یشهده العصر من تحوّلات وتغیّرات متسارعة ومتعاظمة على کافّة المستویات، قلبت معها إیقاع العصر، وغیّرت منظورات الرؤیة إلیه. ومن جانب آخر، فإنّ هذا النمط من الدراسات -أیضاً- هو الذی نبّه أصول الفقه إلى ضرورة الالتفات إلى ما تشهده علوم العصر من تجدّد وتراکم متسارع ومتعاظم، غیّرت من إیقاع المعرفة وصورتها وحرکتها فی عالم الیوم"[8].

إنّ ما لا یحتاج إلى کبیر استدلال أنّ الثورة التی تشهدها الإنسانیة جمعاء الیوم فی مجالات المعلومات والاتصالات والفضاء البیولوجیّ وغیرها تؤثّر تأثیراً مباشراً على الناس فی حاضرهم؛ کما فی تطلّعهم لمستقبلهم؛ بما أسفرت وتسفر عنه من نتائج وإنجازات لم تکن تخطر على بال السابقین، ومن فضل الله -تعالى- على الإنسان أن أنزل علیه شرائع سماویّة تتّفق جمیعها على عبادة الله -عزّ وجلّ- وإفراده بالألوهیة، کما تحثّ على مکارم الأخلاق وتنفر من سیّئاتها، على الرغم من اختلاف الأحکام الفرعیة فیها. ومن فضل الله -تعالى- کذلک على المسلمین أن جعل أرکان دینهم العملیة منها وشعائره التعبدیة واضحة للخاصّ والعامّ، لکن إذا جدّت أمور أو ظهرت مشکلات یکون الرجوع فیها إلى أهل الذکر والاجتهاد مطلوباً؛ لإزالة أیّ لبس أو غموض أو سوء فهم. ولهذا فلیس غریباً أن نجد الفقه الإسلامیّ بمختلف مدارسه واتجاهاته یسیر فی اتجاه الثبات على الأصول والکلّیات من جهة، والمرونة والاجتهاد فی الفروع والجزئیات من جهة أخرى، خصوصاً فی ما یسمّى بـ"منطقة العفو" أو "منطقة الفراغ التشریعیّ" التی ترکتها النصوص قصداً لحکمة ما، وتُرک لفقهاء الشریعة أن یختلفوا فی تقدیرها.

من هنا، لم یجد المحقّقون من فقهاء المسلمین المجتهدین المجدّدین -فی مختلف العصور- أیّ حرج فی إعلان وجوب تغییر الفتوى بتغییر الأزمنة والأمکنة والأعراف والأحوال؛ بل إنّ ثمّة من بلغ الذروة فی ما یُعرف بالفقه التقدیری أو الافتراضی، أو فقه التوقّع[9]، الذی أضحى یشکّل اجتهاداً جدیداً یستلزم مراجعة شاملة للمنظومة الفقهیّة الموروثة؛ کما یستلزم توسیعاً لدائرة أصول الفقه منهجاً ومعرفة؛ بل أضحى فی حاجة إلى "فقیه عصری" مدرک للتغیّرات الحادثة فی واقع الناس، ومستوعب لمستجدّات المعارف والعلوم والمناهج والوسائل، ذلک أنّه إذا کانت معظم نصوص الشریعة تتّسم بقدر من السعة والمرونة، وإذا کان الواقع ذا طبیعة متحوّلة متقلّبة، فإنّ العمل الأصولیّ والفقهیّ فی اجتهاداته التنزیلیة وفی مدى اعتباره لعنصر الواقع (مجال التنزیل) یختلف بحسب الظروف والأحوال، لا المتعلّقة بالزمان والمکان فحسب؛ بل أیضاً -وهذا أهمّ- تلک المتعلّقة بمؤهّلات المجتهد وقدراته الفکریّة والإدراکیّة، ونظام الثقافة السائد، والجمع بین تطوّر العلوم التجریبیّة والاجتماعیّة -التی تمثّل أحد جوانب فهم کتاب الکون وقراءته وتفسیره- وبین البحوث والنتاجات الفقهیّة فی المجالات المعنیّة؛ ذلک أنّه لم یعد بمستطاع أحد أن یقنع بتقدیم إجابات شکلیّة ترکّز على الإطار البنیویّ والتقنیّ دون سواه[10].

بناءً علیه، یبدو أنّنا مدعوون -أکثر من ذی قبل- إلى إعادة النظر فی الأدوات التراثیة لأصول الفقه ومصادره، لا النصیة منها فقط؛ بل کذلک تلک المتعلّقة بکتاب الکون وسائر العلوم التی تسعى إلى فهمه وإلى تطویر منجزات البشر وأحوالهم المختلفة عامة، وفی سیاقاتهم الاجتماعیة خاصة. وعلى المنوال نفسه، فإنّ تطوّر العلوم الاجتماعیة والتجریبیة یفرض القیام بعملیة إعادة الموازنة ذاتها، کما یفرض الاعتراف بالقوانین الطبیعیة والکونیة، وبالمبادئ الثابتة والظرفیة لعطاءات البشر على مرّ التاریخ؛ لأنها تشکّل مصادر مهمّة لأصول الفقه الإسلامیّ لا یمکن تجاوزها أو إغفالها.

لذا، یتعیّن إدراج کلّ ذلک فی إطار التأمّلات الأخلاقیة الجاریة؛ مثلما یتعیّن على المتخصّصین فی  العلوم المتنوعة الاضطلاع بدور نشط وحیوی فی صیاغة الأعراف الأخلاقیة فی مجالات تخصّصاتهم؛ لأنّ الإحاطة بالسیاق/الواقع الاجتماعیّ الإنسانیّ الذی کان مقبولاً باعتباره مقاربة ضمنیة (محتملة فی الغالب) أضحى شرطاً أساساً للبناء الفقهیّ والأخلاقیّ فی العالم المعاصر. فالمطلوب الیوم هو وضع الکتابین (الکتاب المسطور والکتاب المنظور) المتمثّلین فی النصّ القرآنیّ والکون، فی مستوى واحد من حیث هما مصدران محوریّان للاجتهاد الفقهیّ؛ وبالتالی دمج الأکوان المتنوعة للعلوم والمعارف والتخصّصات الموصولة بها للمساعدة على إصدار الفتاوى المتعلّقة بسائر القضایا العلمیة والاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها، ما یعنی أنّه یتوجّب على الفقه وأصوله أن یبقیا فعّالین منفتحین على الاجتهاد المستمر، والتقویم المتواصل؛ بَیْدَ أنّه لا بد من إثراء تلک الفعالیة بمهارات وتخصّصات علمیّة أخرى، حتى یکون الاجتهاد قادراً على النهوض بإصلاح جذری من خلال الدمج الشامل والمتوازن لسائر فروع المعرفة من جهة، ولیکون قادراً -من جهة أخرى- على الدخول فی تفاعلات جدیدة مع العالم باختلافاته وتعقیداته، والعلوم بتنوعاتها وتداخلاتها، والمجتمعات بتعدّدها وتشابکها[11].

لهذا؛ فإنّ من الأسباب الداعیة فی الفکر المعاصر إلى إعادة النظر فی أصول الفقه وبنائه البناء المستوعب لمشکلات العصر، ما یراه بعضهم من عدم تغطیته قطاعات مهمّة فی "الحیاة العامّة"؛ بسبب التوقّف الذی اکتنفه من جرّاء ما فشا فی فکر الأمّة من جمود وتقلید - بخاصّة عند أهل السنّة، وعلى الرغم من بقائه نشطاً عند الشیعة - ودوران الفقه فی فلک "الحیاة الخاصّة" أو الفقه الفردیّ الذی نما وتضخّم على حساب الفقه الجماعیّ[12]؛ ما یدفع إلى مشروع تطویر أصول الفقه بشکل یلبّی حاجات الفقه والحیاة المعاصرة.

وتبعاً لهذا، لم تتوقّف الدعوة عند باحثین کثر فی الزمن الحدیث والمعاصر إلى الاجتهاد فی الفروع فقط؛ وإنما فی دائرة الأصول (أصول الفقه) ذاتها. فـ"النصوص الشرعیّة فی مجال الحیاة العامّة أقل عدداً وأوسع مرونة، وهی نصوص مقاصد أقرب منها إلى نصوص الأشکال، فلا تجد فی باب الأمارة ما تجده فی الصلاة من أحکام کثیرة منضبطة، ولا تجد فی الاقتصاد ما تجده فی الطهارة مثلاً، وهذا الجانب من الفقه المعنیّ بمقاصد الحیاة العامة ومصالحها قد عُطّل إلى حدّ بعید؛ بسبب الظروف التی اکتنفت نشأة الفقه وتطوّر الحیاة الإسلامیة، ولا غُرْو إذاً أن تکون المفاهیم الإسلامیة التی تناسب هذا الجانب قد اعتراها الإغفال وعدم التطوّر أیضاً، فحینما کانت حیاة الإسلام شاملة وکانت الممارسات الاقتصادیة والسیاسیة العامة للمجتمع ملتزمة بالدین نشطت قواعد الأصول التی تناسبها"[13].

وقد أدى انحسار الطبیعة الدینیة للحیاة العامّة فی تاریخ المسلمین إلى أن تکون الممارسات والتجارب السابقة ضئیلة کذلک، وإلى أن یکون الموروث الفقهیّ الذی یعالجها مثل ذلک.

من هنا، تنشأ الحاجة الملحّة إلى التواضع على "منهج أصولی" ونظام یضبط تفکیرنا الإسلامیّ[14]. فعلم الأصول القدیم منسوب إلى البیئة الثقافیّة التی نشأ فیها أو تکاملت فیها أبنیته وصیاغاته الأخیرة، ولذلک تلبّس بمفهومات المنطق الصوریّ التقلیدیّ وأشکاله ومصطلحاته، وأدوات الوضوح والاستقامة، ومنذ ذلک غدا علماً نظریّاً مجرّداً یصلح للتأمّل، ولکنّه جاء عقیماً مُنْبتّاً عن الواقع الخصب بالحیاة، ولا یکاد یؤهّل الماهر فیه لأنْ ینتج فقهاً أو یُمارس اجتهاداً. هکذا کان مصیره فی التاریخ، لم یؤذن تمام صیاغته بنهضة للفقه، بل یبس الفقه، وتحجّر من بعده؛ إلا فی أحوال أفلت المجتهدون فیها من المعهود الأصولیّ[15].

ولا یخفى ما فی هذا التشخیص من صحّة وصواب؛ ولکنّه ینبغی ألا یُحمل على إطلاقه، بخاّصة فی إلغاء دور هذه الأصول وفاعلیّتها؛ ذلک أن السبب فی العطالة المذکورة لا یعود إلى طبیعة "الأصول" نفسها، بقدر ما یعود إلى حالة الجمود وجوّ التقلید والتعصّب الذی ساد فی مرحلة تاریخیّة من مراحل تاریخ المسلمین، وإلا ففی هذه الأصول ما یُمَکّن من إنتاج معرفیّ وفقهیّ خصب إذا ما أُحْسن استثمارُها وتفعیلُها، والاستثناءات التی حدثت -وما تزال- إنّما کانت انطلاقاً من هذه الأصول واستناداً إلیها، تأصیلاً وتطویراً لها، وبناءً وتأسیساً علیها[16]. وهو الأمر نفسه الذی قرّره صاحب کتاب "تجدید أصول الفقه الإسلامی" فی وقوفه على بعض أدلّة هذا العلم؛ یقول: "بدأ الإجماع إجماعاً فقهیّاً تتداول فیه الاجتهادات حتى تستقرّ على وجه غالب، ثمّ غدا بعد ذلک، رصداً تقلیدیاً لنقول السلف (...) بدأ الاستحسان أصلاً فقهیاً واسعاً ولکنّ الفقهاء أخیراً ضیّقوه وضبطوه حتى قضَوْا علیه. وبدأ القیاس قیاساً حرّاً، ولکن خشیة أن یظلّ الهوى بهذا القیاس غیر المنتظم عطل الناس ذلک القیاس الفطری واستعملوا المنطق الصوری التحلیلیّ الدقیق حتى جَمّدوا القیاس فی معادلات دقیقة عقیمة، لا تکاد تولد فقهاً جدیداً"[17].

 

ثالثاً: الحاجة إلى قواعد أصولیة مغایرة:

إنّ المطلوب الیوم هو التجدید الذی ینطلق لا من مجرّد استئناف الاجتهاد فی الفروع، بل من إعادة تأصیل الأصول؛ أی من إعادة بنائها، لأنّ القواعد الأصولیة التی یبتنی علیها الفقه الإسلامیّ إلى حدّ الآن، ترجع إلى عصر التدوین (العصر العباسی الأوّل)، وکثیر منها یرجع إلى ما بعده، کما إنّ القواعد الأصولیّة التی وضعها الفقهاء القدامى -والتی من جملتها القواعد الخاصّة بالتعلیل والقیاس والدوران وما إلى ذلک- لیست ممّا نصّ علیه الشرع؛ لا الکتاب ولا السنة؛ بل هی من وضع الأصولیّین، فهی قواعد للتفکیر، وقواعد منهجیّة. ولا شیء یمنع من اعتماد قواعد منهجیّة أخرى إذا کان من شأنها أن تحقّق الحکمة من التشریع فی زمن معیّن بطریقة أفضل[18].

وعلیه، فالاجتهاد الذی یحتاجه الزمن المعاصر یجب ألاَّ یتوقف عند حدّ الفروع الفقهیة فحسب، بل ینبغی أن یتجاوزها إلى دائرة أصول الفقه نفسها؛ استکمالاً للشوط الذی دشّنه الشاطبی –مثلاً- فی محاولته للوصول إلى "أصول قطعیة"، وتتمّة لما قام به الشوکانی من الترجیح و"تحقیق الحقّ من علم الأصول" على حدّ قوله. ولعلّ المحفّز على کلّ ذلک والداعی إلیه أنّ کثیراً من مسائل الأصول لم یرتفع فیها الخلاف ولم یزل، لذلک فهی فی حاجة إلى مزید من التمحیص والموازنة، ومزید من التحقیق والتدقیق، والبیان والتفصیل[19].

بل حتى على فرض أنّ أصول الفقه قد کملت فی الزمن النبوی، کما یقول الحجوی الثعالبی،  فـ"فروعه لم تتمّ بعد، ولا انتهاء لها أبداً ما دامت الحوادث. ولمّا کان استیعاب جمیع الفروع الفقهیة وأعیان الوقائع الجزئیة، والإحاطة بجمیع أحکامها، وإنزال شریعة بذلک، لا یسعه دیوانَ، ولا تطیقه حافظة الإنسان مع جواز وقوعه عقلاً، لطف الله بنا فأنزل العمومیات لتستنبط منها المسائل الخاصّة بالاندراج، وأنزل المسائل الخاصّة لیُقاس علیها ما یماثلها فی علّة الحکم أو یشابهها، ووکّل إلى نبیِّه تدریب الأمّة على الاجتهاد والاستنباط لیحصل لهم ثواب الاجتهاد الذی جعله من أفضل العبادات، ودلیل کمال النفس والفکر، وتحصیل ثمرة الفهم والعقل الذی أکرم الله به الإنسان"[20].

والدعوة إلى الاجتهاد والحثّ علیه هی فی الآن نفسه دعوة إلى التجدید والابتکار وتأکید على الابتعاد عن التقلید والاجترار. فالإنسان یتجدّد باجتهاده وإبداعه، کما یتطوّر الفکر بنقده ومراجعته، ویتغیّر الواقع بحرکیّته ودینامیّته، ما یخلق أسئلة وإشکالات مغایرة، ویوجد قضایا ومصالح جدیدة، "ولمّا کان علم الأصول هو علم المصالح المتجدّدة وجبت إعادة بنائه طبقاً لروح العصر. فعلم الأصول هو منطق الفقه، هو نظر العمل وأساس الفعل، علم القواعد العامّة للسلوک البشری، هو الفعل النظریّ العملیّ الذی یجمع بین النظریّة والتطبیق. یتفاعل الفکر الأصولیّ مع الفکر الفقهیّ، الکلّ مع الجزء، القاعدة مع المثل؛ لذلک خرجت قواعد "عدم جواز التکلیف بما لا یطاق"، و"رفع الحرج"، و"لا ضرر ولا ضرار"، لهذا فلیست الغایة من علم الأصول، مجرّد وضع مناهج الاستنباط من أجل الاتّساق المنطقی وإحکام أشکال القیاس، بل الغایة هو العمل؛ لذلک سُمّی المنطق الأصولیّ "منطق الاستعمال""[21].

ومن هنا، فالواجب -مراعاةً لمقتضیات التحوّلات الطارئة على کلّ صعید- تحویل علم أصول من علم فقهیّ منطقیّ استدلالیّ استنباطیّ جافٍ إلى علم فلسفی إنسانی سلوکی اجتماعی موجّه مباشرة إلى خدمة مصالح الإنسان فی الواقع والحیاة؛ حیث ینطلق من الواقع وتحدّیاته ومشکلاته وأسئلته ویعود إلیه بالإجابة عن تلک الأسئلة وبمواجهة تلک التحدّیات وتحقیق تلک الحاجیّات وتلبیة المطالب، عملاً بمبدأ أولویّة الواقع على النصّ، والمصلحة على الحرف، والعمل على النظر، على عکس ما کان علیه الفکر الأصولیّ ومنهجه فی القدیم من إعطائه الأولویّة للنصّ على الواقع، وللوحی على المصلحة، والتاریخ والإنسان والأرض[22]. والحال أنّه ما شُرِعت الشرائع، وما أنزلت الأدیان إلا للإنسان ولأجل الإنسان، خدمة لمصالحه العاجل منها والآجل وحفظاً لحقوقه. فالقصد أو المصلحة أساس التشریع، ومدار التنزیل، وبالتالی، فأیّ اجتهاد "للفکر الأصولی" خارج نطاق مراعاة تغییر المصالح وتجدّدها هو اجتهاد فی ما لا جدوى منه ولا فائدة فیه.

ودلیل هذا أنّه بالرجوع إلى تاریخ نشأة أصول الفقه نجد أنّه لم "ینشأ -کما یقول محمد باقر الصدر- من ترف فکری، لا قیمة له إلا فی عالم المجادلة والمناظرة والمغالبة، وإنّما نشأ لحاجة ضروریّة تتعلّق بتوجیه حیاة الإنسان والجماعة والأمّة وتنظیمها بقوانین الشریعة الإسلامیّة، ولمواکبة تحوّلات الزمن وتطوّرات الحیاة، کما لم ینشأ من سکون بارد وجامد؛ وإنما نشأ من حاجة تولّدت منها حرکة وتدافع على صعیدَیْ النظر والعمل. والعلوم -کل العلوم- لا تنشأ من فراغ؛ وإنّما تنشأ بدافع الحاجة إلیها"[23].

لکن یبقى أنّ العلوم بدورها محکومة بمنطق التطوّر والتجدّد؛ لکونها مرتبطة بسیاقات تاریخیّة وظروف حضاریّة مخصوصة، لذلک فهی محتاجة على الدوام إلى المراجعة والتقویم والتحریر والتنقیح؛ لأجل أن تحافظ على استمراریّتها وفاعلیّتها، وعلى طابعها وهویّتها، وإلا لحقها التهمیش والتعطیل، وأصابها الانقراض والزوال. وعلم أصول الفقه لیس استثناء فی هذا الإطار؛ بل هو من أکثر العلوم احتیاجاً إلى التطویر والتحدیث؛ لأنّه أکثر التصاقاً بواقع الناس وحیاتهم، وأکثر ارتباطاً بفکرهم وسلوکاتهم ومعاملاتهم.

هذا ما یستلزم القیام بـ"ثورة منهجیة فی عملیة الاجتهاد" الفقهیّ والأصولیّ معاً، بدءاً من مناهج الأصول إلى عملیة الاستنباط. فی هذا النطاق نجد -على سبیل المثال لا الحصر- الشیخ محمد مهدی شمس الدین یدعو إلى تطویر أصول الفقه ومراجعته مراجعة کلیة؛ وذلک لاعتبارات أساس أبرزها[24]:

- إن أصول الفقه بصیغته السائدة قاصر عن الاستجابة لحاجة الاستنباط الفقهی المتجدّد؛ وذلک بسبب ما یطرأ من تغیرات على المجتمع فی حرکته وتفاعله مع المجتمعات الأخرى. وهذا القصور فی نظره قصورٌ تاریخی ولیس طارئاً؛ لأن أبحاث هذا العلم لم توضع أساساً لتبتنی علیها عملیّة اجتهاد شاملة وتامّة، وإنّما تولّد کثیرٌ منها من الأبحاث التی وضعت لتقعید العربیة وکثیر منها وُضع متأثراً بالفکر المنطقیّ الأرسطیّ ومُصطلحاتِه، وکَذلک لبعض الاعتبارات الکَلامیّة أو القواعِد الکلامیّة.

- یتعیّن أن یستجیب أصول الفقه إلى رؤیة فقْهیّة أوسع من الرؤْیة السائدة الیوم، وهذا یقْتضی -فی نظر شمس الدین- أن یبْحثَ الفقهاء والأصولیون عن أوْجُه النقص فی علم الأصول فی وضْعه الحاضر، بعدما حدث فیه تطویرٌ مهمٌ فی اتجاه العُمق خرج به فی کثیر من الأبحاث عن مجاله الأصْلیّ، لیجعل منه بحثاً کلامیّا تجریدیّاً من دون أن یُسْهم هذا التطوّر -على الإطلاق- فی توسیع مجال الاستنباط الفقهیّ، وهذا یعنی أنّ التوسع الذی حصل فی أصول الفقه کان توسّعاً فی العمق، من دون أن یمتدّ أثره إلى منهج الاستنباط العقلیّ على امتداد الفقه فی حیاة الناس، تبعاً لامتداد هذه الحیاة فی أبعاد جدیدة فرضها توسّع العلوم الوضعیة وإنجازاتها، الأمر الذی یقتضی تطویر علم الأصول لیّتسع لتأصیل قواعد جدیدة واستنباطها؛ حیث تستجیب لحاجات جدیدة حتى یقول الفقه الإسلامیّ کلمته فیها.

- إنّ علم أصول الفقه -فی نظر شمس الدین- تطوّر عند الشیعة الإمامیة تطوّراً کبیراً کمّاً ونوعاً، لکنّ هذا التطوّر بقی فی أغلبه سطحیاً وشکلیّاً من جهة النتائج، فی حین أنّ تاریخ العلم أو تاریخ المعرفة بشکل عامّ، یؤکّد أنّ أیّ تغییر فی المنهج یُفضی إلى تغییر فی النتائج ولو نسبیاً، إمّا فی نوعیة النتائج أو کمّها.

 

رابعاً: الواقع الخارجیّ أفقاً لتطویر النظر الفقهیّ والأصولیّ:

ما تقدّم هو من جملة الأسباب والاعتبارات التی تدعو -کما یقول السید المدرسی- "إلى المزید من دراسة الواقع الخارجیّ لکی لا یُبنى صرحُ الفقه على قاعدة متزلزلة أو على افتراضات بعیدةٍ. فعلى الرغم من أنّ تفقّه المسائل الفرضیّة یزید الفقیه تنبیهاً، إلا أنّه قد [یأتی بعکس نتائجه وبالتالی] یشغله عن الواقع (...) وإذا کنّا معذورین سابقاً فی دراسة مثل تلک المسائل الافتراضیة لبعدنا عن واقع الحیاة، فإنّ علینا الیوم أن نعید النظر فی ذلک المنهج، لأنّه لا یستقیم مع واقعنا؛ حیث إنّ شبکات الإنترنت تحمل إلى مکاتب الفقهاء کلّ یوم مئات المسائل الملحّة، ولا بدّ من أن نجعل کثیراً منها محور دراسة جِدِّیّة فی بحوث الفقه؛ لأنّها ذات صلة بالواقع، وبعضها بالغ التعقید"[25]. وتبعا لهذا، فإنّ الانغلاق دون الحقائق الخارجیة هو نوع من الانغلاق دون المعرفة؛ الأمر الذی قد یؤدّی إلى التیه فی المفاهیم غیر الحقیقیة، والضلال البعید عن الواقع. ومن هنا، تبرز أهمّیّة الاطّلاع الکامل على الواقع لمعرفة أبعاد النصّ الفقهیّ، ولکنّ ذلک لا یمکن من دون دراسة العلاقة بین النصّ ورکائز العقل، بالنظر إلى الجسر الممتدّ بین مرتکزات العقل من جانب، ومحکمات الوحی من جانب آخر. فهذا النهج التفاعلیّ بین العقل والوحی هو الذی یجعل المجتهد أقدر على استنباط الأحکام، وعلى ردّ الفروع إلى الأصول[26].

ولهذا، فإنّ الآلیّات التی یجب على علم الأصول أن یستخدمها مردّها فی نظر السید محمد باقر الصدر إلى آلیتین اثنتین: البیان الشرعیّ (الکتاب والسنّة) أولاً، ثمّ الإدراک العقلی ثانیاً؛ ذلک أنّ أیّ قضیّة من القضایا أو مسألة من المسائل لا تحوز صفة العنصر المشترک فی عملیة الاستنباط، ولا یجوز إسْهامها فی العملیة إلا إذا کان ممکناً إثباتها بإحدى الآلیتین المذکورتین[27].

ولذا، حینما "أراد الشیخ مرتضى المطهری تقسیم مسائل علم الأصول على نحو عام، فقد قسّمها إلى قسمیْن: قسم الأصول الاستنباطیّة وقسم الأصول العملیّة، والأصول الاستنباطیّة -عنده- على قسمین: القسم النقلیّ، ویشمل کلّ المباحث المرتبطة بالکتاب والسنّة والإجماع، والقسم العقلیّ المرتبط -حسب قوله- صرفاً بالعقل"[28]. الشیء الذی یدلّ دلالة قاطعة على مدى قیمة العقل وأهمّیّته؛ بل ومرکزیّته فی الاجتهاد الأصولیّ والفقْهیّ (الشیعیّ خاصّة)، الذی یرتقی إلى مستوى الدلیل (بعد الکتاب والسنة والإجماع) والحجّة (بعد حجّة الرسل (عله))؛ فعن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "حجةُ الله على العباد النبیُ، والحجّةُ فیما بین العباد وبین الله العقلُ"[29]. وعن الإمام موسى بن جعفر الکاظم(ع) أنه قال مخاطباً هشام بن الحکم قائلاً: "یا هشام إن لله على الناس حجتین: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبیاء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول"[30].

وبناءً علیه، فإنّ إثبات حجّیّة العقل فی الفکر الأصولیّ وعدّه دلیلاً رابعاً لمصادر الأحکام الشرعیّة التی تُعد بمثابة القانون الدینیّ لحیاة الناس وأحوالهم وسلوکاتهم، إنّما یدلّ على أنّ هذا العقل مدعوّ على الدوام إلى التطوّر والتجدّد، والتقلّب والتوسّع؛ تبعاً لتطوّرات الوقائع وتقلّبات الظروف ومستجدّات العلم والمعرفة؛ وإلا صار عقلاً جامداً خاملاً، یجعل صاحبه مکتفیاً بما هو متحقّق موجودٌ استنساخاً وتقلیداً، من دون أن یکون مبادراً مبدعاً مجدّداً.

 ومن هنا، یبدو أنّ ما یعانیه مجال الفقه وأصوله من اختلالات، وما یتمیّز به من مظاهر جمود جعلته غیر مواکب لإیقاع الحیاة المعاصرة السریع، إنّما یرجع بالأساس إلى ما أشرنا إلیه من انکفاء للعقل الإسلامیّ وعدم تجدیده؛ لکونه بقی -فی غالبیّته- أسیر المنجز الإسلامیّ الموروث، دینیّاً وفلسفیّاً وفکریّاً، لذا أضحى الإنتاج العقلیّ الإسلامیّ الیوم فی کثیر من مناحیه بعیداً عن واقع الناس وهمومهم، أو فی أحسن الأحوال غیر مؤثّر فی هذا الواقع ولا فاعل فیه.

وإذا کان الفقه "تشریعاً للمجتمع"؛ فإنّ أصول الفقه -باعتباره "العقل المنتج للفقه"- هو تشریع للعقل"[31]. وبقدر ما یتحدّد علم أصول "الفقه" بالعقل والعقلانیّة، بقدر ما یعکس هذا العلم مَنْسُوبَ تطوّر العقل الإسلامیّ أو عدم تطوّره، والعقل المقصود ها هنا، کما سبق البیان -هو العقل المنتج الموسَّع المنفتح-. ومن شأن مقولة "العقلانیّة الموسّعة" هذه "أن تفتح أُفُقاً واسعاً أمام تطوّر أصول الفقه وتقدّمه، وبالذات فی المیادین المتّصلة بالمعارف والعلوم الاجتماعیّة والإنسانیّة التی اتّخذت من العقل مرجعاً لها فی تحلیل السلوک الإنسانیّ والخبرة الإنسانیّة وتفسیرهما وتأطیرهما، کما إنّها تکشف -فی الآن نفسه- الأفق الواسع الذی یتّسم به أصول الفقه (عند الإمامیّة تحدیداً) من جهة انفتاحه على العقلاء کلّ العقلاء، بما هم کذلک، مقدّراً خبرتهم وحکمتهم، ومعترفاً بأثرهم وتأثیرهم، ورافعاً من شأنهم ومنزلتهم، وداعیاً إلى التواصل معهم والاستفادة منهم"[32].

 

خامساً: التجدید المنهجی لأصول الفقه:

 إنّ علم أصول الفقه کما هو مُطالَب الیوم -أکثر من أیّ وقت مضى- بالخروج من نفق "العقلانیّة التقنیّة" المجرّدة، والدخول فی أفق "العقلانیة الوظیفیّة الموسّعة" التی من شأنها أن تبعده عن آفّة التجرید و"المثالیة"، وتلقی به فی رحابة واقع الحیاة ومتطلّبات الزمان؛ هو مُطالَب -أیضاً- بإعادة  النظر فی منهجه وأسلوبه، وهو العلم الذی یوصف بکونه علم منهج قبل أن یکون أیّ شیء آخر.

 فمن الخصائص التی تمیّز الفکر الأصولیّ عن غیره؛ کالفکر الصوفیّ والفکر الکلامیّ  والفلسفی مثلاً، هی سمة المنهجیّة؛ والتی تعنی البحث عن نقطة بدایة یقینیة یبدأ بها العلم، ثمّ تتوالى الخطوات بعد ذلک على نحو منهجیّ، من دون قفز على الخطوات المتوسطة، منذ تلقّی الوحی؛ بوصفه معطى، حتى تحقّقه؛ بوصفه نظاماً مثالیّاً للعالم. وبعد أن یتمّ التلقّی یبدأ الفهم عن طریق الألفاظ إلى المعانی، ثمّ من المعانی إلى الأشیاء، ثمّ من الأشیاء إلى أفعال البشر وعللها. وبعد أن یتمّ الفهم یأتی التحقّق؛ تحقّق مقاصد الوحی الکلّیّة والجزئیّة، ثمّ الأحکام الوضعیّة والتکلیفیّة. وهذه الخطوات المنهجیّة تجعل من علم أصول الفقه أحد أشکال مناهج البحث فی العلوم الإسلامیة[33].

من هذا المنطلق، یبدو أنّ المنهج المناسب لعلم أصول الفقه ما یمکن أن یسمّى بـ"المنهج  الموسّع" الذی ینفتح على مختلف المناهج ویتفاعل معها تفاعلاً قوامه الاستفادة والتجدّد، وهذا یقتضی من جانب آخر الانفتاح على شتّى العلوم والمعارف؛ أی الأشغال على أساس مبدأ تکامل المعارف ووحدتها، ولیس استقلالها وانفصالها.

لکن یبقى أنّ هذا الأمر سیبدو صعباً، بل مستحیلاً، فی غیاب تصوّر منهج محدّد فی التعامل مع نصوص الدین؛ قراءة وفهماً وتأویلاً. ولربما یزداد الأمر صعوبة إذا تمّ إیکال ذلک إلى منهج وحید؛ باعتباره قادراً دون سواه على الوفاء بمتطلّبات القراءة الصحیحة للنصّ الدینیّ، ما یعنی أنّ الطریق الأنسب لفهم هذا النصّ لا یتأتّى عبر "أحادیّة منهجیّة" تتیح النظر إلیه من زاویة مخصوصة، ووفق رؤیة محدّدة تکتفی بذاتها وتلغی ما سواها! إنّ طبیعة نصوص الوحی -کما هو معلوم- تقتضی التعامل معها من منطلق الاختیار التکاملیّ، وعلى أساس النظرة الشمولیّة، سواء فی ذلک تکامل المعارف والعلوم أو تکامل المناهج والوسائل.

فلیس ثمّة ضرورة معرفیة لاختزال التعدّد المنهجیّ أو إلغائه على مستوى فهم النصوص الدینیّة واستنباط الأحکام منها؛ لأنّ المنهج الموحّد - کائناً ما کان- مهما أوتی من فعّالیّة إجرائیّة أو کفایة معرفیّة لا یمکن أن یدّعی إمساکه بالفهم الشامل والمتکامل للنصّ؛ بل إنّ أقصى ما یدّعیه المنهج -فی إطار تعریفه وتحدید وظیفته- هو القدرة على معالجة جانب من الحقیقة الدینیّة، أو معرفة من معارفها، لیس إلا. وإذا کان ذلک على هذا النحو فی دائرة المعارف البشریّة، فما هو حال المعرفة الموصولة بخطاب الوحی التی هی متعدّدة فی أبعادها، متکثّرة فی حقیقتها!

بناءً على ما تقدّم، فإنّ العمل على "توحید منهجیّ" فی إطار دراسة نصوص الدین ومقاربتها مقاربة استکشافیة -على الرغم من إشکالیّته- لا یتمّ عبر اختیار منهج ما من بین المناهج المعتمدة فی مقابل إقصاء المناهج الأخرى؛ لأنّ ذلک یفضی إلى رؤیة معرفیّة مجتزأة وناقصة إزاء تلک النصوص نفسها وإزاء الدین ذاته. فمحاولة فهم القرآن من خلال المنهج الأصولیّ فقط تؤدّی إلى انبثاق رؤیة دینیة مشبعة فقهیاً، مع إقصاء الجانب العقدی والأخلاقی والعرفانی والفلسفیّ والاجتماعیّ والسیاسیّ وغیره!

      إنّ المدخل الملائم لتأسیس منهج لائق بنصوص الدین هو الانطلاق من رؤیة شمولیّة تکاملیّة ولیست تجزیئیّة تفاضلیّة؛ أی من تصوّر "عبر-منهاجیّ" تلتقی ضمنه مکوّنات مناهج عدیدة محکومة بعلاقات قوامها الترابط والتفاعل، والتداخل والتکامل، حیث تخضع لقواعد معیاریة واحدة، فلا یکون الترکیب فیه (أی فی المنهج) باعثاً على التضارب والتعارض، وإنّما على الاتّساق والإحاطة والشمول، وبالتالی یتحقّق فی هذه المنهجیة الترکیبیة التکاملیة لفهم النص الدینیّ الاتّساق والتکامل بین أدوات فهم اللغة والفلسفة والعرفان والأخلاق والسیاسة والکلام والتاریخ وغیر ذلک. ولا شکّ  فی أنّ تفعیل مثل هذا المنهج المتقدّم یستدعی تخفیف الخصومة المنهجیّة فی الثنائیات المتقابلة بین المبانی والآلیّات والوسائل؛ بین العقلی والنقلی، الإخباری والأصولی، الکلامیّ والفلسفیّ، الظاهریّ والباطنیّ، التقلیدیّ والحداثیّ، وما شابه هذا.

ولذلک، فإنّ "توحید المناهج" لا یقوم على الاختزال والإلغاء، وإنّما یتأسّس على الشمول والجمع المتجانس بین العناصر المتقابلة وإخضاعها لتجاذب وتفاعل متبادل یفضی إلى إخراج ما لا یتّسق منها مع المنهج الشامل، ویُبقی على ما هو متجانس مع السیاق العامّ ومنتظم فیه. ومعنى هذا "أنّ توحید المنهج فی إطار فهم النصّ الدینیّ (للوقوف على الأحکام المبثوثة فیه) یقتضی تعدّداً فی بنیته ومکوّناته إذا ما أُرید له أداء دور إطلاقیّ وشمولیّ فی فهم الدین بصورته الواسعة، ومن حیث هو کُلٌّ ذو أجزاء متعدّدة ورسالة واحدة؛ إذ لا بدّ للمنهج فی هذه الحالة من أن یجمع فی الآن نفسه بین شمولیّة وَحْدَویة، وتعدّدیة بُعدیّة، بقدر ما یجمع الدینُ ذاته بین تعدّد فی مجالات المعارف ومستویات العلاقة مع الإنسان والکون. فالشمول فی هذا المجال مقدّمة ضروریة وشرط لازم لحصول فهم رؤیویّ متکامل حول الدین"[34] من جهة، ومدخل ضروریّ لتکییف الشریعة مع واقع الناس ومتغیّرات الحیاة من جهة ثانیة.

ارتباطاً بما سبق، یمکن القول إنّ المدخل الأساس -کذلک- لتطویر أصول الفقه وتجدید التفکیر فیه؛ هو تفعیل الفکر المقاصدی، وبخاصّة ما یتعلّق بمسألة المواءمة بین "فقه الدین" و"فقه التنزیل"، وما یتّصل بهما اتّصالاً مباشراً وغیر مباشر؛ لأنّ ذلک یبقى فی مقدّمة فوائد إدراک الفکر المقاصدی وغایاته. وإنْ کان الأمر لیس بالسهولة المتصوّرة؛ على اعتبار أنّ هذا هو مرام الفکر المقاصدیّ فی سعیه إلى فهم الدین فی شموله وکماله من جانب، وسعیه إلى تنزیله على الواقع بتنوّعاته وتشعّباته من جانب آخر؛ أی إلحاق الوقائع التی لا نصّ فیها بالشریعة، وبما ورد فیه نصّ؛ وذلک وفق ما تقصده الشریعة من مصالح فی الداریْن[35].

ولعلّ ما یبرّر هذا ویدعو إلیه فی الآن نفسه أمران اثنان: الأوّل: "أنه إذا کان الاجتهاد التطبیقیّ قد حظی بشیء من الاهتمام فی المدوّنات الأصولیّة الفقهیّة بضبط بعض القواعد المنهجیّة، فإنّ الاهتمام الأکبر من قبل الأصولیّین قدْ صُرف إلى الاجتهاد البیانیّ الذی یهدف إلى استخلاص الأحکام الشرعیّة المجرّدة من مدارکها المباشرة، وأکثر القواعد المنهجیّة الأصولیّة المقرّرة فی مدوّنات الأصول مخصّصة لهذا الباب، حتى کاد علم أصول الفقه یکون مخصَّصاً فی مجمله لمنهج الفهم؛ الفهم الذی یستدعی مزید اهتمام بمنهج التطبیق[36].

وأما الأمر الثانی، فهو أنّه ما دام الإنسان متحمّلاً لحقیقة الوحی، ویقصد بإرادته الحرّة أن یجعله جاریا وفاعلاً فی واقع الحیاة، فإنّ ذلک یتطلّب شرطاً مبدئیّاً أن یفهم الواقع الإنسانیّ الذی یرید أن یجریه على أساس من الوحی، وأن یتعمّق فی فهمه، ویبذل الجهد الکبیر فی ذلک؛ نظراً إلى طبیعته المعقّدة المتشابکة[37].

وعلیه، فإنّ "الحاجة -الیوم- ماسّة إلى تجدید الضوابط الأصولیّة والقواعد المقاصدیّة فی ما یتعلّق بفقه الأولویّات والموازنات، وکذلک قواعد ترتیب الحِجَاج والاستدلال. فأصول هذه الأمور تکاد تنعدم؛ لأنّ ذوی الخبرة یستنطقون مفاهیمهم لأنفسهم ویبقى غیرهم من أهل العلم تائهین فی فتنة تعارض الظواهر ومقتضیات الدلالات[38]، الأمر الذی أدّى إلى ظهور فئتین متعارضتین، "الأولى لا ینقصها الإخلاص والصدق، ولکن ینقصها الفقه بالواقع وملابساته، فإذا بها تدعو إلى تطبیق الأحکام دون علم بمآلات مقاصدها، وتصوغ من ذلک خطط إصلاحها، وتشرع فی تنفیذ ما تقدر على تنفیذه، فتسقط دعوتها أحیاناً کثیرة فی نقیض ما رامته من إصلاح. وأمّا الثانیة فلا ینقصها العلم بالواقع، لکن ینقصها الإخلاص والصدق، فإذا بها تدّعی أنّ الواقع المعاصر لا یتحمّل کثیراً من الأحکام الشرعیة لعدم تحقّق مقاصدها فیه. وبین خطأ أولئک وهؤلاء تبقى الضرورة قائمة لتنظیر أصولی متین فی هذه القضیة یقطع مسالک التیه والخطأ، ویسدّد النظر الاجتهادیّ فی صیاغة أحکام الدین بقصد التنزیل[39].

لکن، ما تجدر الإشارة إلیه فی هذا المقام أنّ الفکر المقاصدیّ بدوره یحتاج إلى قدر من الانضباط والتطویر؛ لکی لا یقع فی مزالق تبعده بعداً شبه کامل عن جوهر النصوص الدینیّة، ولکی لا یُتّخذ ذریعة لتشویه تلک النصوص وتحمیلها ما لا تطیق من الدلالات والتأویلات؛ لذا، لا بدّ من "تطویر البحث فی مقاصد الشریعة وإثرائه فی سبیل التوصّل إلى معرفة دقیقة وشاملة بمقاصد الأحکام فی کلّیّاتها وجزئیّاتها حتى تکون الصیاغة المقاصدیّة منهجاً سدیداً فی التطبیق"[40].

وکما یلزم التمسّک بقواعد الشریعة وأصولها وکلّیّاتها الإیمانیّة ومحکماتها القِیْمیّة والتشریعیّة على مستوى الاعتقاد، یجب -أیضاً- اعتماد مقاصدیّة المنهج على مستوى الممارسة والتطبیق الفعلیّ، وذلک بحکم ما بین المصدریّة والمنهج الشرعیّین من تفاعل وتکامل وارتباط عضوی، حیث لا یُتصوّر الفصل بینهما بأیّ حال من الأحوال؛ وإلا أصیب کلّ شیء بالتمیّع والتسیّب فی غیاب مبدئیّة الاعتقاد، وسار کلّ شیء فی الارتجال والعشوائیّة[41].

 

خاتمة

بناءً على ما تقدّم، تبیّن أنّ الحاجة إلى تجدید أصول الفقه وتطویره وتحدیثه هی الیوم أکثر إلحاحاً من أیّ وقت مضى؛ حتى یکون علماً مُتّصفاً بما یکفی من التأثیر والفاعلیّة فی نطاقه الفقهی والأصولیّ بشکل خاصّ، وفی نطاق الدراسات الإسلامیّة على نحو عامّ. ولیکون کذلک فی مستوى العصر؛ إنْ من جهة البیان أو المعرفة أو المنهج. ومن ثمّة تَتَجدّد قوّتُه التأثیریّة فی توجیه العقل الإسلامی الحدیث وإسناده.

ولعلّ من ضمن مداخل ذلک التطویر والتجدید – کما سبق الذِکْر- وضع أصول الفقه فی صلب العلاقة مع العلوم الإنسانیّة والاجتماعیّة بمختلف فروعها وأنواعها؛ وخاصّة ما یرتبط بالعلاقة المنهجیّة والمعرفیّة، انطلاقاً من "رؤیة تکاملیّة" ولیس وفق منظور تجزیئیّ انتقائیّ، من جهة، والسیر بهذا العلم فی اتّجاه واقع الناس المَعِیش، لیکون مؤهّلاً إجرائیّاً ووظیفیّاً للردّ على التحدّیات الکبیرة التی یسفر عنها هذا الواقع فی شتّى المیادین والمجالات وعلى کافة الأصعدة والمستویات، من جهة ثانیة. وکلّ ذلک یکون فی ضوء المقاصد العلیا للشریعة الإسلامیة، ولکنْ بطریقة جدیدة متطوّرة وأکثر تخصّصاً ودقّة، ودینامیّة، ومرونة، حیث تُمکّن من تنزیل متجدّد للأحکام على الوقائع والأحداث من خلال مراعاة تطوّرها وتغیّرها؛ تبعاً لتغیّر الظروف والأحوال والسیاقات، وتبعاً لتجدّد مصالح الناس وحاجاتهم فی عالم سریع التحوّل والتقلّب، وشدید التعقید والترکیب.

 

 

 



[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.

[2] انظر: شعیب، قاسم: تحریر العقل الإسلامی، ط1، لا م، المرکز الثقافی العربی، 2007م، ص142-145.

[3] المدرسی، محمد تقی الدین: التشریع الإسلامی مناهجه ومقاصده، ط1، طهران، انتشارات المدرسی، لا ت، ج2، ص21.

[4] المدرسی، محمد تقی الدین: "المذهب القیمی فی التشریع وأبعاد تطویر مناهج الاستنباط"، حوار مع السید محمد تقی المدرسی، مجلة البصائر، فصلیّة إسلامیّة فکریّة، تصدر عن مرکز الدراسات والبحوث الإسلامیة فی حوزة الإمام القائم (عج) العلمیة فی بیروت، العدد50، السنة23، 1433هـ.ق/ 2012م، ص142-144.

[5] انظر: م.ن، ص143.

[6] سعید، شبار: "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعی نموذجاً"، مجلة الإحیاء، )على شبکة الإنترنت(:www.alihyaa.com.ma

[7]  الغزالی، أبو حامد: المستصفى فی علم الأصول، تصحیح: محمد عبد السلام عبد الشافی، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1996م، ص6.

[8] المیلاد، زکی: تجدید أصول الفقه: دراسات تحلیلیة نقدیة لمحاولات المعاصرین، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 2013م، ص39.

[9] انظر: باشا، أحمد فؤاد: مقاربات علمیة للمقاصد الشرعیة، کتاب المجلة العربیة، العدد231، 1437هـ.ق، ص146-147.

[10] انظر: رمضان، طارق: الإصلاح الجذری (الأخلاقیات الإسلامیة والتحرّر)، ترجمة: أمین الأیوبی، ط2، الشبکة العربیة للأبحاث والنشر، 2015م، ص146.

[11] انظر: م.ن، ص148-152.

[12] انظر: شبار، "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعیّ نموذجاً"، م.س.

[13] الترابی، حسن عبد الله: تجدید أصول الفقه الإسلامی، ط1، الدار السعودیة للنشر والتوزیع، 1984م، ص16.

[14] انظر: م.ن، ص22.

[15] انظر: الترابی، حسن عبد الله: منهج التشریع الإسلامی، القاهرة، دار الصحوة للنشر والتوزیع، 1990م، ص12.

[16] انظر: شبار، "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعی نموذجاً"، م.س.

[17] الترابی، حسن عبد الله: تجدید الفکر الإسلامی، ط1، الجزائر، دار البعث، ص50-51.

[18] انظر: الجابری، محمد عابد: وجهة نظر؛ نحو إعادة بناء قضایا الفکر المعاصر، ط1، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 1992م، ص65-66.

[19]  انظر: القرضاوی، یوسف: الفقه الإسلامی بین الأصالة والتجدید، ط1، القاهرة، دار الصحوة، 1986م، ص40-41.

[20] الحجوی الثعالبی، محمد: السامی فی تاریخ الفقه الإسلامی، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1995م، ج1، ص163.

[21] حنفی، حسن: حصار الزمن؛ مفکّرون، ط1، مصر، مرکز الکتاب للنشر،  2004م، ص41-42.

[22] انظر: جیلالی، أبو بکر: "تجدید أصول الفقه بین أیدی المعاصرین"، مجلة الکلمة، فصلیة تعنى بشؤون الفکر الإسلامّی وقضایا العصر والتجدّد الحضاریّ، تصدر عن منتدى الکلمة للأبحاث والدراسات فی بیروت، العدد73، السنة18، خریف2011م، ص111.

[23] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص25.

[24] انظر: شمس الدین، محمد مهدی: الاجتهاد والتجدید فی الفقه الإسلامیّ، ط1، بیروت، المؤسّسة الدولیة للدراسات والنشر، 1419هـ.ق/ 1999م، ص82-94.

[25] المدرسی، محمد تقی الدین: فقه الاستنباط: دراسات فی مبادئ علم الأصول، ط1، بیروت، مرکز العصر للثقافة والنشر، 2013م، ج1، ص30.

[26] انظر: م.ن، ص32.

[27] انظر: الصدر، محمد باقر: المعالم الجدیدة للأصول، قم المقدّسة، مرکز الأبحاث والدراسات التخصصیة للشهید الصدر، 1421هـ.ق، ص212.

[28] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص227.

[29] الکلینی، محمد بن یعقوب: الکافی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، ط5، طهران، دار الکتب الإسلامیة؛ مطبعة حیدری، 1363هـ.ش، ج1، کتاب العقل والجهل، ح22، ص25.

[30] م.ن، ح12، ص16.

[31] الجابری، محمد عابد: تکوین العقل العربی، ط3، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 1987م، ص186.

[32] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص238.

 [33] انظر: حنفی، حسن: من النص إلى الواقع؛ محاولة لإعادة بناء أصول الفقه، بیروت، دار المدار الإسلامی، 2005م، ص26.

[34]  فیاض، حبیب: مقاربات فی فهم الدین، ط1، بیروت، مرکز الحضارة لتنمیة الفکر الدینی، 2008م، ص22-23.

[35] انظر: عطیة، یوسف: الاجتهاد والتجدید فی الفکر المقاصدی، بیروت، دار الطلیعة، 2014م، ص103.

[36] انظر: النجّار، عبد المجید: فی المنهج التطبیقیّ للشریعة الإسلامیّة، ط1، القاهرة، دار النشر الدولیّ، 1994م، ص11.

[37] انظر: النجّار، عبد المجید: فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً، ط1، تونس، الزیتونة للنشر والتوزیع، 1995م، ص96-97.

[38] انظر: الأنصاریّ، فرید: الفطریّة؛ بعثة التجدید المقبلة، المغرب، الکلمة للطبع والإشهار، 2007م، ص225.

[39] انظر: النجّار، فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً، م.س، ص204.

[40] النجّار، فی المنهج التطبیقیّ للشریعة الإسلامیّة، م.س، ص70.

[41] انظر: بزا، عبد النور: مصالح الإنسان؛ مقاربة مقاصدیّة، المعهد العالمیّ للفکر الإسلامیّ، 2008م، ص118.

[1] انظر: شعیب، قاسم: تحریر العقل الإسلامی، ط1، لا م، المرکز الثقافی العربی، 2007م، ص142-145.
[1] المدرسی، محمد تقی الدین: التشریع الإسلامی مناهجه ومقاصده، ط1، طهران، انتشارات المدرسی، لا ت، ج2، ص21.
[1] المدرسی، محمد تقی الدین: "المذهب القیمی فی التشریع وأبعاد تطویر مناهج الاستنباط"، حوار مع السید محمد تقی المدرسی، مجلة البصائر، فصلیّة إسلامیّة فکریّة، تصدر عن مرکز الدراسات والبحوث الإسلامیة فی حوزة الإمام القائم (عج) العلمیة فی بیروت، العدد50، السنة23، 1433هـ.ق/ 2012م، ص142-144.
[1] انظر: م.ن، ص143.
[1] سعید، شبار: "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعی نموذجاً"، مجلة الإحیاء، )على شبکة الإنترنت(:www.alihyaa.com.ma
[1]  الغزالی، أبو حامد: المستصفى فی علم الأصول، تصحیح: محمد عبد السلام عبد الشافی، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1996م، ص6.
[1] المیلاد، زکی: تجدید أصول الفقه: دراسات تحلیلیة نقدیة لمحاولات المعاصرین، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 2013م، ص39.
[1] انظر: باشا، أحمد فؤاد: مقاربات علمیة للمقاصد الشرعیة، کتاب المجلة العربیة، العدد231، 1437هـ.ق، ص146-147.
[1] انظر: رمضان، طارق: الإصلاح الجذری (الأخلاقیات الإسلامیة والتحرّر)، ترجمة: أمین الأیوبی، ط2، الشبکة العربیة للأبحاث والنشر، 2015م، ص146.
[1] انظر: م.ن، ص148-152.
[1] انظر: شبار، "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعیّ نموذجاً"، م.س.
[1] الترابی، حسن عبد الله: تجدید أصول الفقه الإسلامی، ط1، الدار السعودیة للنشر والتوزیع، 1984م، ص16.
[1] انظر: م.ن، ص22.
[1] انظر: الترابی، حسن عبد الله: منهج التشریع الإسلامی، القاهرة، دار الصحوة للنشر والتوزیع، 1990م، ص12.
[1] انظر: شبار، "الاجتهاد والتجدید وأصول الفقه فی فکرنا المعاصر؛ الاجتهاد الجماعی نموذجاً"، م.س.
[1] الترابی، حسن عبد الله: تجدید الفکر الإسلامی، ط1، الجزائر، دار البعث، ص50-51.
[1] انظر: الجابری، محمد عابد: وجهة نظر؛ نحو إعادة بناء قضایا الفکر المعاصر، ط1، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 1992م، ص65-66.
[1]  انظر: القرضاوی، یوسف: الفقه الإسلامی بین الأصالة والتجدید، ط1، القاهرة، دار الصحوة، 1986م، ص40-41.
[1] الحجوی الثعالبی، محمد: السامی فی تاریخ الفقه الإسلامی، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1995م، ج1، ص163.
[1] حنفی، حسن: حصار الزمن؛ مفکّرون، ط1، مصر، مرکز الکتاب للنشر،  2004م، ص41-42.
[1] انظر: جیلالی، أبو بکر: "تجدید أصول الفقه بین أیدی المعاصرین"، مجلة الکلمة، فصلیة تعنى بشؤون الفکر الإسلامّی وقضایا العصر والتجدّد الحضاریّ، تصدر عن منتدى الکلمة للأبحاث والدراسات فی بیروت، العدد73، السنة18، خریف2011م، ص111.
[1] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص25.
[1] انظر: شمس الدین، محمد مهدی: الاجتهاد والتجدید فی الفقه الإسلامیّ، ط1، بیروت، المؤسّسة الدولیة للدراسات والنشر، 1419هـ.ق/ 1999م، ص82-94.
[1] المدرسی، محمد تقی الدین: فقه الاستنباط: دراسات فی مبادئ علم الأصول، ط1، بیروت، مرکز العصر للثقافة والنشر، 2013م، ج1، ص30.
[1] انظر: م.ن، ص32.
[1] انظر: الصدر، محمد باقر: المعالم الجدیدة للأصول، قم المقدّسة، مرکز الأبحاث والدراسات التخصصیة للشهید الصدر، 1421هـ.ق، ص212.
[1] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص227.
[1] الکلینی، محمد بن یعقوب: الکافی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، ط5، طهران، دار الکتب الإسلامیة؛ مطبعة حیدری، 1363هـ.ش، ج1، کتاب العقل والجهل، ح22، ص25.
[1] م.ن، ح12، ص16.
[1] الجابری، محمد عابد: تکوین العقل العربی، ط3، بیروت، المرکز الثقافی العربی، 1987م، ص186.
[1] المیلاد، تجدید أصول الفقه، م.س، ص238.
 [1] انظر: حنفی، حسن: من النص إلى الواقع؛ محاولة لإعادة بناء أصول الفقه، بیروت، دار المدار الإسلامی، 2005م، ص26.
[1]  فیاض، حبیب: مقاربات فی فهم الدین، ط1، بیروت، مرکز الحضارة لتنمیة الفکر الدینی، 2008م، ص22-23.
[1] انظر: عطیة، یوسف: الاجتهاد والتجدید فی الفکر المقاصدی، بیروت، دار الطلیعة، 2014م، ص103.
[1] انظر: النجّار، عبد المجید: فی المنهج التطبیقیّ للشریعة الإسلامیّة، ط1، القاهرة، دار النشر الدولیّ، 1994م، ص11.
[1] انظر: النجّار، عبد المجید: فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً، ط1، تونس، الزیتونة للنشر والتوزیع، 1995م، ص96-97.
[1] انظر: الأنصاریّ، فرید: الفطریّة؛ بعثة التجدید المقبلة، المغرب، الکلمة للطبع والإشهار، 2007م، ص225.
[1] انظر: النجّار، فقه التدیّن فهماً وتنزیلاً، م.س، ص204.
[1] النجّار، فی المنهج التطبیقیّ للشریعة الإسلامیّة، م.س، ص70.
[1] انظر: بزا، عبد النور: مصالح الإنسان؛ مقاربة مقاصدیّة، المعهد العالمیّ للفکر الإسلامیّ، 2008م، ص118.